اختار كريم مسوس، أخصائي التغذية، أن يكون مثقفا صحيا لمرضى السكري، على الرغم من أن عالم الطب لم يكن مدرجا ضمن اهتماماته، غير أن الأقدار شاءت أن يختار دراسة التغذية الصحية، هذا التخصص الذي كان الإقبال عليه قليلا، حيث كان أخصائيو التغذية يُعَدّون على الأصابع، فكان من بين الدفعات الأولى المتخرجة في هذا المجال. ويتمنى اليوم بعد أن ذاق حلاوة هذا التخصص وأهميته، للحفاظ على صحة الإنسان ووقايته من الأمراض، أن يتم إنشاء جمعية وطنية تضم أخصائيي التغذية لتعزيز وجود هذا التخصص والتأكيد على أهميته. - “المساء”: هل لك أن تحدثنا عن كريم كأخصائي في التغذية؟ * كريم مسوس: في الحقيقة قصة كريم مسوس والتغذية الصحية بدأت بالصدفة، وتحولت إلى انشغال يومي أسعى لتحقيقه بعد أن ذقت حلاوة المهنة التي لم تكن يوما في أحلامي، ولأكون واضحا، كان حلمي منذ طفولتي أن أصبح طيارا... وكنت مولعا بعالم الطائرات إلى درجة كبيرة، حتى أنني كنت أقتني كل أنواعها، وكانت دفاتري مملوؤة برسومات عن أشكال وأنواع مختلفة الطائرات، ورغم تحقّق حلمي في ركوب الطائرة وأنا في عمر ال 15 سنة، حيث سافرت إلى فرنسا، غير أن ذلك لم يشبع شغفي، فكنت أخبئ ما يُقدم لي من مال لشراء تذكرة تمكنني من السفر ثانية، وبالفعل تمكنت من ركوب الطائرة مرة أخرى من وإلى قسنطينة، ولكن يبدو أن ما يشتهيه المرء لا يتحقق دوما، فقد شاءت الأقدار أن يتبخر حلمي في أن أكون طيارا، لأجد نفسي أقتحم عالم الطب. و الملفت للانتباه، أنني بمجرد دخولي المعهد وشروعي في دراسة التغذية كتخصص، أُعجبت به وركزت انتباهي ومن ثمة اجتهدت فيه، لأتخرج من المعهد الوطني للصحة العمومية بقسنطينة، أين تتلمذت على أيدي أساتذة كان لهم الفضل في تزويدي بقاعدة علمية صحيحة، على غرار كل من الأستاذة بوقارة والبروفيسور ولد عرب. - ألا تعتقد أن عدد المتخصصين في التغذية الصحية لا يزال قليلا في الجزائر؟ * بالفعل، عدد المختصين في التغذية الصحية لا يزال قليلا، لا أملك أرقاما معينة، ولكن أذكر أنني كنت من الدفعات الأولى المتخرجة في مجال التخصص الغذائي، بحكم أن الفارق الزمني بين دفعة وأخرى كان كبيرا، لأن الإقبال على هذا التخصص قليل أنذاك، إذ لم يكن معروفا في الجزائر، إن لم نقل أنه كان يخطو خطواته الأولى، والنتيجة أنني واجهت بعض الصعوبات لدى تخرجي، إذ لم يكن هناك أخصائيون ذوو خبرة بإمكاننا الاتصال بهم، مما اضطرني للبحث عن سبل أخرى تمكنني من توسيع معارفي في هذا المجال، وأذكر أن شبكة الانترنت كانت حديثة العهد بالجزائر وباهضة الثمن، ومع ذلك كنت أضحي بالمال في سبيل الحصول على بعض المعلومات، إذ كنت أتواصل مع بعض الأخصائيين بكندا ليزودوني ببعض المعلومات التي تساعدني على فهم عالم التغذية الصحية، وتحديدا ما يتعلق بالغذاء الصحي لمريض السكري، فلا يخفى عليكم أنني بعد التخرج اخترت موضوع التغذية الصحية لمريض السكري والسمنة، هذا المجال كان يتطلب مني بحثا دائما لإعطاء معلومات علمية مفيدة، تساعد المرضى على تجنب بعض التعقيدات الصحية. - برأيك، كيف يمكن تشجيع الطلبة مثلا على اختيار هذا التخصص في مجال التغذية؟ * أعتقد أنه آن الأوان لإظهار مدى أهمية العناية بهذا التخصص الذي لا يعد مهما بالنسبة للمرضى فقط، ولكن أخصائي التغذية يفيد حتى الأشخاص الأصحاء، ومن الخطأ ربط أخصائي التغذية بالشخص المريض، لأن عدم اتباع نظام غذائي متوازن وصحي قد يعرض الأشخاص الأصحاء للإصابة ببعض الأمراض، ومن ثمة نأمل أن تتغير نظرة الطلبة إلى هذا التخصص، وأن نسير نحو تكوين أخصائيين في التغذية لمختلف شرائح المجتمع، أي أن يكون لدينا أخصائي تغذية للمرأة الحامل، وأخصائي تغذية للطفل الرضيع، للمراهق والمسن، وأخصائي تغذية للمريض على اختلاف نوع المرض، سواء تعلق الأمر بمريض السكري أو ضغط الدم، أو مريض القلب، وأن نعمل على إعداد أخصائي التغذية للرياضيين على اختلاف الرياضات التي يمارسونها، فلا يخفى عليكم أن الاهتمام بالنظام الغذائي الصحي للرياضي يجعله يحقق نتائج إيجابية. - كيف ترى استجابة مرضى السكري للنظام الغذائي الذي تقدمه؟ * أستطيع القول إنه من بين 100 مريض مصاب بداء السكري، لدينا 20 بالمائة فقط يلتزمون بما نقدمه لهم من إرشادات ونصائح، غير أن هذا الرقم لا يدعو للقلق، لأن التغذية الصحية كثقافة في المجتمع الجزائري لا تزال ضعيفة هذا من جهة، ومن ناحية أخرى، من الصعب علينا تغيير بعض العادات الغذائية لبعض الأشخاص، لا سيما المرضى، من أجل هذا نعمل معهم وفق قاعدة التعود والتكرار، وشعارنا في ذلك؛ “ممنوع علينا أن نمنع” حتى يفهم المريض عموما أهمية الالتزام ببعض العادات الغذائية الصحية التي تساعده على تجنب التعرض لبعض المشاكل الصحية، إذ لا نمنعه عن أكل ما يحب ولكن بكميات لا تتعارض وحالته الصحية. - هل لك أن تقدم لنا بعض الأرقام عن عدد المصابين بداء السكري؟ * في الواقع، لا أملك أرقاما رسمية، ولكن ما أستطيع التأكيد عليه هو أن عدد المرضى في تزايد مستمر، لذا لابد من تفعيل آليات اليقظة والتوجيه الصحي في مجال الغذاء، من خلال محاولة غرس ثقافة غذائية صحية لدى المواطن الجزائري الذي يسير اليوم نحو الوعي بأهمية الغذاء الصحي، خوفا من الوقوع ضحية لبعض أمراض العصر. - ما هي أكثر العادات الغذائية سلبية بالمجتمع الجزائري في رأيك؟ * لم يعد المجتمع الجزائري ذلك المجتمع الذي يستهويه الطبق الأسري المعدّ في المنزل، طبعا بالنظر إلى التغيّرات المتسارعة التي أثرت علينا كمجتمع وجعلتنا نميل إلى اقتناء كل ما هو معلّب أو معدّ خارج البيت، ولعل انتشار محلات بيع الأكل السريع خير دليل على ذلك. ولأوضح؛ لا أقصد أن المطاعم التي تحضر الأكل السريع غير نظيفة، لأن هذه الأخيرة لديها من يبحث فيها، لكنني أخص الحديث عن صحة الغذاء الذي عادة ما لا يستجيب لحاجات الإنسان، ومن ثمة فهو أكل غير صحي، هذا من ناحية، ومن بين العادات الغذائية السلبية؛ استهلاك المشروبات الغازية بكميات مبالغ فيها، إذ أذكر فيما مضى أن المشروبات الغازية كنا نقتنيها في المناسبات فقط، ولكن اليوم أصبح لكل فرد بالعائلة مشروبه الخاص، ومن ثم، أستطيع القول بأن الابتعاد عن الأكل داخل المنزل وراء انتشار العادات الغذائية السلبية، لذا أنصح كمختص في التغذية، بتجنب الأكل المطبوخ خارج المنزل، ولأن من الصعب تحقيق ذلك إلى حد ما، فعلى المواطن الجزائري أن يحسن اختيار ما يأكله لتجنب التعرض لبعض أمراض العصر، على غرار السمنة والسكري. - هل يتقيد كريم بقواعد التغذية الصحية في منزله ومع أفراد عائلتك؟ * طبعا.. فعملي كمثقف صحي في مجال التغذية جعلني أتعلم الكثير من الأمور المهمة عن التغذية الصحية السليمة، لذا أحاول استغلال كل ما أعرفه من معلومات، وأطبقها في منزلي، وإن قصدت السوق مثلا، أختار الأغذية التي أشتريها وأحاول دائما الجمع بين الذوق والصحة لأحقق المعادلة التي يجهلها الكثيرون من الذين يركزون على الذوق ويهملون الصحة. - حدثنا عن تجربتك مع وسائل الإعلام؟ * تجربتي مع وسائل الإعلام كانت هي الأخرى صدفة، وكان لها الفضل الكبير في أن ذاع صيتي كأخصائي تغذية في مجال التثقيف الصحي لمريض السكري والسمنة، حيث أذكر بأنني دعيت للمشاركة في ملتقى علمي تزامن مع اليوم العالمي لمرض السكري، حيث حضر المؤتمر أطباء ومرضى، وكانت كل المداخلات المقدمة باللغة الفرنسية، غير أنني وددت الخروج عن القاعدة وقمت بترجمة مداخلتي ليستفيد منها المرضى المشاركون في اللقاء، وبمجرد أن فرغت من محاضرتي، وجهت لي دعوة من القناة الأولى للإشراف على تقديم برنامج خاص بمرضى السكري، فكنت بذلك أول من نشط برنامجا صحيا في الوطن العربي عبر أمواج الأثير حول “يوميات مريض السكري”، وكان البرنامج شهريا، سمي وقتها “أنت والسكري”، وأذكر أنه لقي تجاوبا كبيرا بالنظر إلى عدد المتصلين الراغبين في الاطلاع على النظام الغذائي السليم والصحي لمريض السكري، بعدها شاركت في بعض البرامج الإذاعية الأخرى على غرار إذاعة البهجة، كما اقتحمت أيضا عالم التلفزيون، حيث كنت أشرف على حصة خاصة بالتوعية الغذائية الصحية لمريض السكري والأنظمة الغذائية السليمة للأصحاء عموما، وأتمنى اليوم أن يتم تغطية كل الإذاعات المحلية بمثل هذه البرامج التحسيسية، لأن الغذاء الصحي يهم المرضى وغير المرضى. - أشرفت على إعداد بعض المنشورات الخاصة بالتغذية الصحية، حدثنا عنها؟ * بحثي الدائم عن المعلومات العلمية المفيدة في مجال التغذية الصحية خاصة بالنسبة للمرضى، ورغبتي في تعميم الفائدة على الجميع، جعلني أبادر إلى ترجمة بعض الأفكار الغذائية الصحية بطريقة سهلة ومبسطة على شكل أقراص مضغوطة قدمت مجانا من مخبر روش، ومن بين العناوين التي تناولتها، أذكر منها؛ “مريض السكري والغذاء” و«النظام الغذائي الصحي” إلى جانب طبع بعض المنشورات الخاصة بالتغذية الصحية عموما، والتي كنت أستقيها من المؤتمرات التي أشارك فيها كمحاضر أو كطالب علم. - ما الذي يتمناه أخصائي التغذية كريم مسوس في الأخير؟ * أتمنى أن يتم إعطاء أهمية أكبر للأنظمة الغذائية الصحية بالمطاعم المدرسية، لتمكين أطفالنا من فهم المعنى الحقيقي للغذاء الصحي، وبالتالي تفادي الوقوع ضحية للعادات الغذائية السلبية، من جهة، كما أدعوا الأخصائيين في مجال التغذية الصحية إلى ضرورة إنشاء جمعية وطنية يجتمع فيها أخصائيون في التغذية للعمل في إطار منظم، وفق برنامج غذائي يفيد المجتمع.