في سعيه الدائم للبحث عن أماكن ذات دلالة قوية من حيث قيمتها التاريخية والروحية، يقترح الفنان التشكيلي الجزائري رشيد القريشي، رحلة إلى محطات الارتقاء الصوفي في معرضه الجديد ”مقامات” بدار عبد اللطيف بأعالي العاصمة، وهو الذي لم يستسلم لأثار التجديد التي تطبع في الغالب الفن المعاصر، مثبتاً بذلك أن هذا الفن يمكنه أن يبلغ قمما عالية دون أن يتخلى عن أصله. كان رشيد القريشي قد وضع سنة 2008 بحصن الجزائر، مشروعه الذي يحمل عنوان ”مسلك الورود” المرتبط بشخصية جلال الدين الرومي. وفي 2009 سجل حضوره في شهر درويش بالجزائر العاصمة، بأحد عشر نقشا وكذا صدور كتابه المصوَّر ”أمة في المنفى” عن منشورات البرزخ، وهو الكتاب الذي قد أنجزه رفقة الشاعر الفلسطيني الراحل، ليعود في الفترة الممتدة من 17 ماي إلى 13 جوان المقبل بآخر مشروع له، ”مقامات”. يشير عنوان المعرض”مقامات ” إلى المسار الفني وإلهام الفنان القريشي المتصل بالروحانية الصوفية، وقد استعمل أسلوبه في الخط العربي بتقنية في منتهى الدقة والصعوبة في التنفيذ، تضمّن سلسلة من 80 طبعة حجرية (ليثوغرافيات)، مخصصة لعشرة من أولياء التصوف الإسلامي، وهم سيدي بومدين شعيب، جلال الدين الرومي، رابعة العدوية، ابن العربي، ابن عطا الله الإسكندري، الحلاج، فريد الدين العطار، الشيخ سيدي أحمد التيجاني، الشيخ العلوي المستغانمي، وسيدي عبد القادر جيلاني. ومثّل كل ولي بسلسلة من ثمان لوحات ليثوغرافية ذات لون معيَّن، تختلف بدورها من ولي لآخر، تباينت بين البنفسجي والأحمر والأخضر والأزرق، عُرضت في فضاء داخلي. وفي حديقة دار عبد اللطيف تم عرض سبع منحوتات كاليغرافية من خشب الأبنوس، بعنوان ”صلاة على الغائبة”، التي رفعها الفنان إلى أمه. فن رشيد القريشي الذي يُعد فنا معاصرا يستند على الخط العربي ورمزية الإسلام، ومثال عن ذلك أسماء الله الحسنى التي تعود في نهاية كل سلسلة من الطباعة الحجرية أو الليثوغرافيات، التي كانت حاضرة. ويلمس زائر المعرض تشبُّثه بثقافته الجزائرية من خلال رموز كف اليد المبسوطة، والتي تسمى في العرف الجزائري ”الخامسة”، ويقصد بها إبعاد الحسد، فعدد خمسة هي عدد آيات سورة الفلق التي تقي من الحسد، وقد اعتمد الفنان على هذه الأيقونة لإثبات اللمسة الجزائرية في أعماله العالمية التي بلغت شهرتها كل العالم. و«مقامات” تشير إلى أكثر من معنى، وفي هذا السياق تحيلنا بالدرجة الأولى على عالم التصوف الذي ومنذ بدأ رشيد القريشي إبداعه له، يعود إليه بوفاء في نشاطه الفني، كما تشير إلى مراتب الارتقاء الروحي التي يدعي المسلمون سلوكها للاقتراب من المعرفة والإيمان بالحقيقة الإلهية، وربما تفيد ”المقامات” ذلك الفن الأدبي القديم التي اشتهر بها بديع الزمان الهمذاني في القرن العاشر. وبالمفهوم الجزائري فإن المقامات ومفردها المقام، وهو المكان الذي يشيَّع فيه الولي الصالح ويشيَّد له ضريح وفضاء لقراءة القرآن والصلاة معروفة في القرى والمداشر، والتي ينحدر منها الفنان بالمكان المسمى عين البيضاء بولاية أم البواقي. وعن علاقة القريشي بالكتابة التي تساهم في صياغة أعماله، فهي تزيد من تميز أسلوبه، فالقرآن الكريم وكل ما يخص كتابات الصوفيين الكبار وكتابات كُتّاب العصر الحديث وبالأخص الشعراء، يمنحونه جمالية التنويع الخطي التي ترتبط، قبل كل شيء، بمضامين تسكن الفنان. ويُعد رشيد القريشي أحد أشهر الفنانين الجزائريين في العالم، فأعماله حاضرة في القارات الخمس ضمن مقتنيات رفيعة، والأكثر من ذلك فإن تصنيفه في السوق العالمية للفن لم يتوقف عن النمو، فهذه السمعة والمكانة هي ثمرة مشوار طويل، عنوانه بحث عن الامتياز وقدرة على العمل مثيرة للإعجاب، بالإضافة إلى سعي متسق لا يقف عند الإبداع المادي للأعمال، بل يعانق رحلة بحث روحية وأدبية عميقة.