يشيع مئات التونسيين، اليوم، جثمان الفقيد محمد البراهمي إلى مثواه الأخير، في نهاية مسيرة نضالية لوجه آخر من وجوه المعارضة اليسارية التونسية، ولكن ذلك لن يكون سوى بداية لطرح الكثير من التساؤلات عن دوافع هذه الجريمة التي جاءت لتعيد المسيرة الثورية لتونس ما بعد بن علي إلى نقطة البداية. وبالفعل فقد عاد التونسيون بذاكرتهم باغتيال البراهمي ستة أشهر إلى الوراء بعد عملية اغتيال المعارض اليساري الآخر شكري بلعيد بكل إسقاطاتها من الظروف والملابسات التي أحاطت بها وأيضا سيل الاستفهامات حول ما إذا كانت البلاد ستدخل من جديد في أعقد أزمة سياسية شبيهة بتلك التي عصفت بحكومة حمادي الجبالي. ويكاد التونسيون يلتقون عند سؤال واحد: من المستفيد من عملية الاغتيال والدوافع والأهداف الكامنة وراءها وهل ثورة الياسمين مستهدفة فعلا بفعل من يريدون وقفها في منتصف الطريق ومنع التونسيين من قطف ثمارها عامين بعد نجاحها؟ المؤكد أن الجريمة تحمل خلفيات سياسية وذات علاقة وثيقة بالنقاش المحتدم حول المنطلقات الفكرية لمشروع الدستور التونسي الجديد الخاضع لتجاذبات سياسية متنافرة واحدة علمانية وأخرى إسلامية. وهي إرهاصات عادة ما تميز الصراع الذي يميز العلاقة بين أجنحة ثورة متعددة أطرافها ومشاربها الفكرية كما هو الحال في تونس. وهي كلها ”توابل” يمكن أن يؤدي تفاعل مكوناتها إلى إدخال تونس في أزمة سياسية أخطر من تلك التي اجتازتها بسلام في مارس الماضي. والمؤكد أن الاستنفار واقع الآن في أعلى هرم السلطات التونسية لبحث سبل عدم تكرار تلك التجربة التي جعلت تونس قاب قوسين أو أدنى من فراغ دستوري ومؤسساتي خطير. ولكن هل تمتلك السلطات التونسية مقومات تفادي مثل هذا التوقع ”الكارثي”؟ وهل سيصمد الوزير الأول علي العريض أمام رياحها العاتية أم أنه سيجد نفسه هو الآخر مرغما على رمي المنشفة كما فعل سابقه حمادي الجبالي تحت ضغط معارضة لن تسكت هذه المرة وقد وجدت في مناسبة اغتيال البراهمي مناسبة لتأكيد مواقفها الرافضة لأسلمة المجتمع التونسي ولا يستبعد أن تكون التضحية بالمنطلقات الفكرية لمشروع الدستور الجديد أولى تبعات عملية الاغتيال.