من الصعب بمكان أن نستعرض الثقافة في الصحافة الجزائرية منذ نشأتها إلى يومنا هذا، والصعوبة تكمن في أن هذا الموضوع يتطلب كتابا قائما بذاته، كما أنها تكمن في أن الثقافة في الجزائر لم تكن مفصولة ذلك الفصل عن الموضوعات ذات الهم الوطني الاجتماعي والسياسي والتربوي، فكل هذه الهموم كانت واحدة، وكل الثقافة سياسة، وكل السياسة إصلاح ومقاومة ووطنية، ولا نستثني من هذه المراحل التي مرت بها الصحافة الجزائرية إلا مرحلة الاستقلال التي أصبح فيها للصحفي الجزائري الاختصاص في الموضوعات التي تم فيها الفصل بين ما هو سياسي وثقافي وتعليمي واجتماعي وإصلاحي تربوي. حينما نراجع تاريخ نشأة الصحافة المكتوبة في الجزائر وخصوصا في شقها المكتوب باللغة العربية لا نجد تقسيما يحدد جنس الموضوع، بل لا نجد اختصاصا للكاتب يعرف به، بل نجده الكاتب الصحفي يجمع بين كل الاختصاصات ويكتب حسبما يقتضيه الحدث الذي يراه يتناسب ومقاله. كما أن الصحفي الجزائري لم يكن خريج معاهد ومدارس صحفية متخصصة، بل كان يخوض هذا الغمار معتمدا على ثقافته الخاصة ومما امتلكه من خلال المطالعة والقراءة، ولهذا نجد معظم الذين يكتبون في الصحافة العربية هم من خريجي الزوايا والجوامع والزيتونة ونادرا ما نجد صحفيا أو كاتبا باللغتين الفرنسية والعربية. الملاحظ على الكتابة الصحفية في الجزائر أنها كانت تتميز في مرحلتها الأولى بأسلوب بسيط، بينما بدأت في مرحلتها الثانية حسب الدكتور عبد المالك مرتاض “تميل إلى الجزالة والسمو، باصطناع التعبيرات القوية، والألفاظ النقية، المستوحاة من الآثار الأدبية القديمة شعرا ونثرا، ومن النصوص الدينية المختلفة، وفي طليعتها القرآن الكريم، والحديث النبوي وخطب الصحابة”. ولمعرفة خصائص الصحافة الجزائرية عند نشأتها فلا بد من العودة إلى الظروف واستقصاء المراحل التاريخية التي مرت بها خصوصا وأن الصحافة جاءت مع الاستدمار الفرنسي، فأول جريدة صدرت عن السلطات العسكرية الفرنسية الغازية جريدة “بريد الجزائر” التي صدرت لتحقيق الأهداف المسطرة من قبل الاستعمار وهي محو الخصائص القومية وسلخ الجزائريين من شخصيتهم وفصلهم عن انتمائهم الحضاري العربي الإسلامي وتضليل الرأي العام الفرنسي والدولي، وتصوير الجزائر له بأنها أرض بلا شعب ولا تاريخ ولا هوية، ولهذا صدر العدد الأول من “بريد الجزائر” في 01 جويلية 1830 أي قبل الإنزال البحري الفرنسي على شاطئ سيدي فرج وقبل معركة اسطاوالي رغم أن العدد يحمل تاريخ 25 جويلية 1830وتلتها صحف أخرى تصب كلها في خدمة مصالح العدو وتروج له وتشوه المقاومة الجزائرية التي تواصلت منذ احتلال الجزائر مثل المرشد الجزائري والنشرة الرسمية جريدة المبشر. والملاحظ على هذه الجرائد أنها خالية من الثقافة والفنون والآداب وهي بعكس ما تدعيه سلطة الاحتلال أنها جاءت من أجل نشر الحضارة والثقافة، بل إن الجرائد التي أصدرتها سواء السلطة الحاكمة والمعمرون تعمل كلها لصالح الاستعمار والكلونيالية. الصحافة الوطنية أما فيما يخص الصحافة الجزائرية فقد جاءت كردة فعل على ما يحدثه المستعمر الفرنسي في النسيج التاريخي الحضاري والاجتماعي والنفسي من تمزيق وتخريب، مما تولدت عنه ردة فعل للدفاع عن مقومات الشعب الجزائري وهذا ما قامت به الصحافة الجزائرية وما دلت عليه حتى عناوين الصحف التي صدرت وهي أسماء دفاعية تحصينية. رغم القهر المسلط على الجزائريين من طرف السلطات الاستعمارية إلا أن ظهور الصحافة على الساحة الجزائرية جعل الجزائريين يدركون أهميتها في توعية المجتمع وتنويره بما يحدث له والظروف التي تحيط به مما جعلتها الصحافة بمثابة معول يحدثون به فجوة كبيرة في جدار سميك أقامه الاحتلال ليحاصر به الشعب الجزائري من خلال استراتيجياته التي وضعها لفك الارتباط بينه وبين انتمائه الحضاري الإسلامي العربي وتشكيكه في هويته وشخصيته وعزله عن واقع أمته التي ينتسب إليها ثقافة وروحا، فكانت الصحافة بمثابة الصيحة المدوية التي اهتدى من خلالها الشعب إلى الطريق بعد الضلال والتضليل الذي مارسه العدو عليه. ظهرت الصحافة العربية الجزائرية في بداية القرن العشرين، حيث شهدت صدور أول صحيفتين جزائريتين وهما “جريدة المغرب” التي صدرت في الجزائر العاصمة من 1903 إلى 1913 وكانت تظهر مرتين في الأسبوع، وجريدة “الصباح” وقد صدرت باللغتين العربية والفرنسية وأصدرها العربي فخار سنة 1904 بمدينة وهران، كما ظهرت جريد “ذوالفقار”، سيف الإسلام، للفنان عمر راسم واسمها يدل على التشبث بالتاريخ وبرموز الأمة الجزائرية لأن ذي الفقار يعرف من خلال ثقافتنا الشعبية والتاريخية بسيف الإمام علي كرم الله وجهه، والإمام علي هو من أعظم الرموز التي تحولت إلى أسطورة شعبية في محاربة الكفار ورسومات عمر راسم هي ذاتها تنبع من هذا التاريخ العظيم وهذه الثقافة العربية الإسلامية التي نجدها في المعمار، الأزياء واللباس، الأكل، الأسواق، الأعراس والسهرات، وهذا ما يميز الشخصية الجزائرية عن غيرها من الجاليات الأوربية واليهودية، وكرست ثقافتها التي تشبثت بها وراهنت من خلالها على نسف كل ما يحاول الاستعمار الفرنسي ترسيخه في أذهان الجزائريين، كما صدرت جريدة الفاروق التي ترأس تحريرها عمر بن قدور. الصحافة الجزائرية لم تكن صحافة متخصصة، بل صحافة أجبرتها الظروف القائمة عند إنشائها على دخول معترك المقاومة الفكرية والسياسية الذي ليس له من فاصل يفصله عن ثقافة الاستدمار الفرنسي إلا فيصل إسلامي أو غير إسلامي، عربي وغير عربي، مما جعل الصحف المكتوبة باللغة العربية تتخندق في خندق الدفاع عن اللغة والثقافة والقضايا الجزائرية، وهذا ما جعل المحتل الفرنسي يشدد عليها الخناق ويطاردها بالمصادرة والتوقيف باعتبارها تشكل خطرا على وجوده في الجزائر وهذا ما تؤكده مواقف شيوخ جمعية العلماء في شخص الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي حدد معالم الهوية والشخصية الجزائرية في نشيده “شعب الجزائر مسلم”، فالعمل الثقافي بالنسبة للصحافة الجزائرية هو عمل سياسي ولا يمكن فصلهما سواء في الصحف ذات التوجه السياسي أو تلك التي لها توجه جمعاوي إصلاحي، فهذا مفدي زكريا السكرتير العام لحزب الشعب الجزائري يقول في نشيد الحزب الرسمي “فداء الجزائر”: “فلسنا نرضى الإمتزاجا ... ولسنا نرضى التجنيسا ... ولسنا نرضى الاندماجا ... ولا نرتادّ فرنسيسا ... رضينا بالإسلام تاجا ... كفى الجهال تدنيسا ... ولتحيا الجزائر مثل الهلال .. ولتحيا فيها العربية”. وعلى هذا المنوال، كانت تتناول الصحف الجزائرية الثقافة من الجانب التاريخي الحضاري والانتماء إلى العروبة والإسلام وهي ردّة فعل كان لا بدّ منها على محاولة الاستعمار تفكيك المجتمع الجزائري واقتلاعه من ماضيه ثقافيا ودينيا وتاريخيا، فلم تكن هناك صحافة تعتني بالفنون والآداب رغم وجود هذه المواهب الأدبية سواء باللغة العربية أو الفرنسية لأن ما كان متوفرا للمثقف الجزائري حينها سخّره لتحرير الوطن وإفشال مخططات العدو، فظهر إلى جانب هذا الصراع الفكري السياسي بين دعاة الاندماج وطلب المساواة ودعاة الاستقلال والسيادة التامة خارج السيادة الفرنسية. المثقف الجزائري الذي كتب في الصحف هو إما أن يكون معلما مصلحا ومربيا وشاعرا ألقى بالأساليب الجمالية جانبا وجعل من قلمه سيفا حادا وجرسا قويا لإيقاظ شعبه وترشيده إلى طريق الخلاص بدل أن يبقى في برجه العاجي، أو يسلك سلوك شعراء وأدباء المدرسة الرومانسية التي كانت سائدة وقتئذ من خلال مدارس أبولو والرابطة القلمية التي اعتنقها شعراء المهجر والمشارقة عموما لأن المثقف والشاعر الجزائري لم يكن له الوقت الكافي للغزل والتغني بالطبيعة، بل كان همه هو تخليص وطنه من الاحتلال الجاثم على أنفاسه الذي عمل على اقتلاعه من جذوره. فالثقافة الجزائرية إبان الوجود الاستعماري ثقافة ملحمية، فهذا الشاعر محمد العيد آل خليفة رحمه الله وهو أمير شعراء الجزائر يروي لنا شعريا مأساة وفاجعة كبرى وقعت على باخرة “سيدي فروج” لعمال جزائريين أو بما نسميهم في أيامنا هذه ب ”الحراقة“ أو الهجرة غير الشرعية وهذا في سنة 1926 وكان عدد ضحايا هذه الباخرة الذين تم حشوهم في بيوت الفحم 40 ضحية نتيجة انعدام الهواء لمدة يومين وهم على ظهر الباخرة فماتوا اختناقا واحتراقا، فنشرت القصيدة في جريد الشهاب ومطلعها: ”علام يظلّ دهرك مستريبا تسائله ويأبى أن يجيبا” إلى أن يقول: “ألم يوقن بأن الخطب خطب تكاد له البصائر أن تغيبا ؟ ألم يوقن بأن الخطب أنحى على العمال شبانا وشيبا ؟ وقالوا أن في “باريس” عيشا يروق غضاضة ويلذّ طيبا وقل للقائمين على فرنسا تعالوا فأشهدوا الخطب العجيبا جسوم في (فروش) مجلدات تعاني تحته (الغاز)الرهيبا وأجساد ممزقة الحشايا تكاد لها النواصي أن تشيبا” وهذا أبو اليقظان الشاعر والصحفي الكبير يصف لنا الصحافة وما كان يناط بها ويرجى منها في قصيدة له: يقول في مطلعها: “إن الصحافة للشعوب حياة والشعب من غير اللسان مواة الشعب تلميذ وهي مثقف ومهذب إذ تخلص النيات أما البلاد الراقدات فحظها ال حرمان والخسران والويلات مثل الجزائر مقتل الإحساس مج زرة الحياة فحظّها الحسرات في عصر توزيع الحياة على بني الإ نسان نابت أهلها ضربات سقيت بكل مخدر أعصابهم فتراكمت عنهم به سكرات لولا رجال مخلصون تداركوا بمنبهات ما بهن لماتوا” ومن الجرائد التي صدرت إلى جانب جرائد جمعية العلماء الجرائد الحزبية مثل “جريدة الشعب” التي صدر منها أول عدد في 07 أوت 1937 وكان برنامجها “يجب أن يكافح الشعب من أجل السيادة الجزائرية... وتوحيد الشعب وجعله كتلة واحدة على أساس وحدته الدينية والتاريخية واللغة والدم”. وقد صدرت عشرات الجرائد في الجزائر من بداية القرن العشرين إلى الخمسينات منه، وكانت معظم الجرائد التي تصدر بالعربية لا تعمر طويلا فتوقفها سلطة الاستعمار وكثيرا ما تصدر متقطعة، ولهذا نجد أسماء كثيرة للجرائد مثل “الإقدام” والبصائر التي يرى الدكتور عبد الملك مرتاض: “أنها استطاعت أن تنشئ مدرسة بيانية تعبيرية ذات خصائص فنية، فذلك مالم يتح للصحافة العربية في الجزائر أن تعرفه خلال هذه المرحلة المبكرة، ولكنه ليس ركيكا ولا سخيفا، كما زعم أديب مروة، خطأ”. ويختار لنا الدكتور مرتاض نصوصا من البصائر كشهادة على سمو كعبها الأدبي في فن الخطاب مثل الافتتاحية التي حبرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في افتتاحية العدد الأول من البصائر الثانية والتي جاء نصها: “... وهذه جريدة البصائر تعود إلى الظهور، بعد احتجاب طال أمده. وكما تعود الشمس إلى الإشراق بعد التغيب، وتعود الشجرة إلى الإيراق بعد التسلب، فلا يكون اعتكار الظلام، وإن جلل الأفق بسواده، إلا معنى من معاني التشويق إلى الشمس، ولا يكون صر الشتاء وإن أعرى الأشجار باشتداده إلا حزنا لقوة الحياة في الأشجار”. وكل الصحافة التي صدرت قبل الحرب العالمية الأولى، ومابين الحرب العالمية الأولى والثانية كانت تلتف حول موضوعات ذات طابع سياسي يقاوم من أجل الشخصية والهوية الجزائرية وسط ثقافات أوروبية متعددة تعمل كلها من أجل تكريس مقولة الجزائر فرنسية. أما الصحافة إبان ثورة التحرير فقد تغلب عليها طابع الأخبار حول المعارك التي كانت تجري في طول البلاد وعرضها والدعاية للثورة، وإن وجدت الثقافة في هذه الصحف فإنها عبارة عن أخبار عن الفرق الفنية من مسرح وغناء وتجولها في أنحاء الدول الشقيقة والصديقة بالتعريف بالقضية الجزائرية وبخصائص الشعب الجزائري ذي البعد الحضاري العربي الإسلامي، كما تميزت ببعض المقاطع الشعرية التي تمجد الثورة الجزائرية وتقدم التضحيات الجسام التي يضحي بها الشعب على مذبح الحرية والتحرير وهذه القصائد سواء كانت بأقلام عربية وهي كثيرة ولكن في جرائد عربية أو في جرائد جزائرية التي كانت محدودة في جريدتي المجاهد والمقاومة الجزائرية. أما الثقافة الجزائرية في عهد الاستقلال من خلال الصحافة فقد بدأت تأخذ شكل الجرائد الحديثة في تبويبها وأركانها وأقسامها سواء في جريدة المجاهد أو الشعب أو في جريدة المجاهد الأسبوعية أو النصر التي تصدر في قسنطينة أو الجمهورية التي كانت تصدر في وهران إضافة إلى الدوريات الأسبوعية والشهرية كمجلة القبس التي تصدرها وزارة الأوقاف ثم تحولت إلى مجلة الأصالة ثم الرسالة، وكذا مجلة الثقافة وأمال اللتين كانتا تصدران عن وزارة الثقافة وكذا المجلات الجماهيرية التابعة لحزب جبهة التحرير، حيث كانت تحبر بأقلام ثقافية جزائرية كبيرة سواء باللغة العربية أو الفرنسية وقد كتب فيها عمالقة الأدب الجزائري من أمثال بن هدوقة، الطاهر وطار، مالك حداد، مالك بن نبي، محمد مصايف، الركيبي شريط، دودو، سعد الله، حنفي بن عيسى وغيرهم من الأدباء والمفكرين الذين استطاعوا أن يعرفوا بالثقافة والفكر في الجزائر إضافة إلى الملتقيات الفكرية كملتقى الفكر الإسلامي في عهد الدكتور الموسوعة مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله، كما ظهرت الصحافة الأدبية من خلال الملاحق الأسبوعية للجرائد الوطنية، حيث كانت تكتب أقلام كبيرة جزائرية وعربية وتبحث في التاريخ والأدب العربيين في الجزائر وما زالت بعض الجرائد تواصل سيرها ومنها ما اختصت بالشأن الثقافي، ومنها جرائد خصصت لها أقاسما ثقافية تعنى بشؤون الثقافة وأخبارها ومستجداتها على المستويين الوطني والعالمي. وبهذا نستطيع القول أن الصحافة الجزائرية لعبت دورا مهما من أجل الحفاظ على الهوية والتاريخ والخصائص الجزائرية منذ الاحتلال إلى الاستقلال وعملت على إبراز الثقافة الجزائرية التي استطاعت أن تفرض نفسها على المستويين العربي والدولي وتحصد عدة جوائز لها وزنها الإقليمي والعالمي.