يُجمع المؤرخون على أن الثورة التحريرية المجيدة،كان لها وقع استثنائي على شعوب العالم المضطهدة التي جُردت من أبسط حقوقها، لا لشيء إلا لأنها رفعت راية الحق في الحياة والحرية ومناهضة جميع أشكال الاستبداد والعبودية والاضطهاد قبل رفعها للبندقية، فكان لها أن أصبحت نموذجا رائدا، اقتدت به الحركات التحررية في العالم. ومن منطلق هذه المبادئ كافح الجزائريون وقاتلوا، وهي نفس المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، وهو ما يطرح مشكلة فلسفية وأخلاقية عميقة على فرنسا؛ لأنها واجهت بوحشية مطالب شعب لم يكن يطالب سوى بحقه في الحرية والمساواة. ولا يختلف اثنان فيما قدمته الثورة الجزائرية من معان كبيرة للجهاد والنضال الحقيقيين، والتشبث بقيم ومبادئ الثورة الحقيقية على واقع حال الشعب الأعزل الذي فرضته القبضة الاستعمارية الفرنسية، سواء في العالم العربي أو العالم غير العربي، حتى باتت الجزائر وشعبها مضربا للمثل في البطولة والتمسك بالحق، وتقديم مقابل ذلك الغالي والنفيس، إذ قدّمت مليونا ونصف مليون شهيد على منح الحرية. وقلّما نجد من يقول إن الثورة الجزائرية ثورة لم تستطع أن تغيّر المفاهيم السائدة في العالم، والمتعلقة بالسيادة الشعبية، وبحكم الشعوب لأنفسها دون تدخّل أي طرف خارجي. لقد كانت بحق نبراسا لكل الشعوب المستضعفة التي ذاقت ويلات الاستعمار، وتجرعت مرارة الهوان والظلم والجوع والتشريد. ويلخّص المؤرخ الجزائري الدكتور أبو القاسم سعد الله، أسباب انطلاق الثورة الجزائرية، إذ يقول إنها لم تنطلق من فراغ، بل كانت خلاصة تجارب ثورية بدأت منذ 1830، وحصيلة لتراكمات ثقافية وسياسية عاشها الشعب الجزائري، فاستفادت ثورة نوفمبر من الرصيد الإيجابي لتلك الثورات ومن أخطائها أيضا، علّمت مناضليها أن يحذوا حذو آبائهم في الإيجابيات، وأن يحذروا مما وقعوا فيه من أخطاء، وأن يكافحوا بطريقة جديدة تقتضيها روح العصر وتجارب الأمم، إلى أن كُتب لها النصر، وأصبحت نموذجا يدرَّس في الكليات الحربية في العالم، كما أصبحت محل إعجاب عشاق الحرية أينما كانوا. كما يرى الأستاذ الجامعي زهير إحدادن من جهته، أن أهم أهداف الثورة كان استعادة الاستقلال واسترجاع السيادة للجزائر، كدولة لها تاريخ عريق، وكأمة قائمة منذ القدم واستعادة كرامة شعب أعزل مارس الاحتلال الفرنسي أبشع الجرائم والمجازر ضده، إلى حد استعمال الجزائريين كفئران تجارب في التجارب النووية، التي لاتزال آثارها إلى غاية اليوم بكل ما تحمله من أضرار ومعاناة في الحياة. ويشير الأستاذ إحدادن إلى أن الثورة الجزائرية المجيدة لم تقم لتحارب الجيش الفرنسي وكسره للحصول على نصر عسكري، كما أنها لم تأت لمحاربة الشعب الفرنسي، بل جاءت كرد فعل للعنف الذي بادر به المحتل الفرنسي، والذي فاق كل التصورات، ما تطلّب إعداد العدة والدفاع عن النفس وعن الوطن لانتزاع نصر سياسي.
الثورة تركت أثرا عميقا في الجسم الفرنسي تقول الإحصائيات إن فرنسا أصدرت لحد اليوم أكثر من أربعة آلاف كتاب عن "حرب الجزائر"، وهو العدد الذي لم يصدر ولو نصفه في الجزائر، حسب التقديرات التي تؤكد أنه لا يوجد بلد في العالم اهتم بأحداث وقعت في بلد آخر كما اهتمت فرنسا بالأحداث التي وقعت خلال الثورة التحريرية الجزائرية، وهو الدليل القاطع على الأثر العميق الذي تركته هذه الثورة في الجسم الفرنسي، حسبما أكده بعض المؤرخين الفرنسيين أنفسهم. ويعتبر الفرنسيون ما وقع في الجزائر بين 1954 و1962، مجرد حرب؛ كون فرنسا وغيرها من دول العالم الحر، تسير وفق المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، والتي هي الحرية والإيخاء والمساواة، وبالتالي فلا يمكن أن توجد، في نظرهم، ثورة أخرى غير ثورتهم ولا مبادئ أخرى غير مبادئها، مع أن الذي وقع في الجزائر هو ثورة بكل المقاييس. وتكفي العودة إلى القواميس والموسوعات الفرنسية نفسها وقراءة ما تعني عبارة "ثورة"، وسنجد أنها تنطبق على ما كان يقع في الجزائر في تلك الفترة. وتسجل وثائق الثورة الجزائرية، خاصة بيان أول نوفمبر، أن الثورة الجزائرية قامت من أجل تحقيق نفس المبادئ، التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية، فالبيان يتكلم عن الحرية للشعب الجزائري، وعن المساواة التي يجب أن تكون لكل الجزائريين أمام القانون، وعن إلغاء كل النصوص المجحفة التي تجعل من الجزائريين مجرد مواطنين من الدرجة الثانية. ويتحدث البيان عن استعادة السيادة الوطنية لإعادة بناء الدولة الجزائرية وفق مبادئ القانون الدولي والمساواة بين الجميع. ومن أجل هذه الأهداف قامت الثورة الجزائرية وواجهت، لمدة أكثر من سبع سنوات، فرنسا بجيشها وسياسيّيها وإعلامها، وانتصرت عليها. وعن مصطلح "الحرب" الذي تطلقه فرنسا على ما جرى في الجزائر عوض ثورة تحريرية، يؤكد المؤرخون أن القواميس تعرّفه على أنه ذلك النزاع المسلح الذي يحدث بين الأمم أو الدول أو مجموعات بشرية، وهي تتطلب وجود شيء من التوازن في وسائل الردع بين الفريقين المتحاربين، وللحرب أساليبها وأخلاقها أيضا. هذا التعريف، الذي لا ينطبق أبدا على ما وقع في الجزائر إبان الثورة، حيث كان هناك نزاع بين شعب أعزل محروم من كل شيء ولا سلاح له في مواجهة سلطة احتلال بجيشها وشرطتها وإدارتها ومواطنيها، ومن ورائها دولة فرنسا هي من أقوى دول المعمورة وقتها، إضافة إلى معظم ما يُعرف بدول العالم الحر. فكيف يمكن الحديث عن حرب بين قوة عسكرية بلغ تعدادها، مع نهاية الخمسينيات، المليون فرد، يؤطّرهم 60 جنرالا و700 عقيد في مواجهة شعب مجوَّع ومرحَّل مورست عليه كل أنواع الجرائم المصنَّفة حاليا في خانة الجريمة ضد الإنسانية؟! كيف يمكن الحديث عن حربٍ والذين رفعوا السلاح عدّتهم بنادق صيد، بعضها غير صالح للاستعمال لم يتجاوز عددهم الأربعة آلاف فرد في نوفمبر 1954، ومع ذلك انتصر المظلوم ورُد المغتصب إلى حيث أتى، يجر أذيال الخيبة والهزيمة؟!