يؤكد الكاتب شريف الشوباشي أن سبب تخلفنا وتقدم الآخرين لا يخص الدين الإسلامي، وكتاب “ لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟” محاولة لاكتشاف كيفية استغلال الحكام والسادة والطبقات العليا للدين الإسلامي، كأداة تمكّنهم من استعباد الرعية عن طريق بعض المفسرين الذين لم يتورّعوا عن تضليل الشعوب وتخدير إرادتهم وإضفاء عباءة الحلال على كل مظالم الحاكم، ويكتشف الكاتب أن العناصر التي أدت إلى انهيار حضارتنا في الماضي هي نفسها التي تكبّل عقولنا وتحرمنا اليوم من التطوّر، فآفات الماضي ما تزال قائمة إلى الآن، بل إننا نغذيها، نحميها ونطورها. يري الكاتب أنّ لبّ أزمتنا الحضارية يكمن في خصام ثقافتنا مع الزمن والتطوّر، وعدم إدراك جدلية حركة الزمن، باقتناع العربي أن ما هو صالح في عصر ما صالح لكل العصور، وهي قناعة تلعب دورا أساسيا في تيبّس العقل العربي والإسلامي وتكلسه وكساده. ويشير الكاتب إلى القدسية التي يحظى بها التاريخ الرسمي والسلف والأقدمون في الذهنية العربية الجماعية، مما كلّف الكثيرين ثمنا غاليا عندما تخطوا حدود المقدسات أو ما اعتبره حراس العقيدة مقدسات لا تمس، ويقرّ الكاتب بأنّ للافتخار بالماضي المجيد دوره في تماسك المجتمعات العربية وتلاحمها وفي رفع معنويات الشعوب، لكن إذا قام على أساس غير صحيح يكون ضرره بالغا، لذا فهو يرى ضرورة النقد الذاتي ودراسة العيوب والنواقص من أجل مواجهتها والتغلّب عليها. وكانت العقلية العربية التقليدية على خصام مع ركن آخر من أهم أركان الحضارات وهو العقل، فالعقلية التقليدية ترى في العقل عدوا لدودا للدين تماما كما فعلت الكنيسة المسيحية لقرون طويلة، وفي رأي الكاتب، فإنّ بداية الانهيار الحضاري المحسوس كانت بالانقلاب على فكر المعتزلة، حيث اعتبر اختفاءه ومحوه تماما من الوجود دليلا دامغا على أنّ الفكر التقليدي الاتباعي تمكّن من فرض سيطرته الكاملة على العقل العربي، رغم وجود جيوب للمقاومة وبعض الانتفاضات المضيئة في كلّ العصور. تكرّر نفس سيناريو الانقلاب على المعتزلة مع لحظة مضيئة أخرى، وهي عصر النهضة التي ظهرت بشائرها في منتصف القرن العشرين، حيث نجح التيار التقليدي في إجهاضها، مستغلا نكسة 1967 وفشل المشروع القومي. ويؤكّد الكاتب أنّ الأديان لديها من قوة التأثير الذاتية ما يجعلها تقاوم كل محاولات هدمها من الداخل والخارج، بالتالي فإنّ الدين ليس بحاجة إلى حرّاس العقيدة الذين يدعون أنه لولا جهودهم وتيقظهم وتربّصهم بالأعداء والكارهين لتعرّض الإسلام للضعف والاضمحلال، لافتا إلى أنّ الخطر الحقيقي على الإسلام هو التشنّج والأفكار المتطرفة والآراء المنغلقة. يقرّ الكاتب بأنّ كافة الحضارات القديمة قامت على الأساطير والتفسيرات الخرافية لنشأة الكون وظواهر الحياة، لكنّه في الوقت الذي انسلخت الثقافات الأخرى عن عالم الميثولوجيا والخرافات ودلفت إلى دنيا العقل والواقع، فإنّ العقلية العربية الإسلامية ظلّت دائما على وفائها للأوهام والخزعبلات، ولم تتبلور حصانة نفسية ولا معنوية ضد المخادعة والشعوذة، ويرى الكاتب أنّ الإيمان بالخرافات يقترن دائما بكراهية غريزية للواقع إن لم يتوافق مع رغبات الإنسان، فيما كان الجرم الذي ارتكبه كل رواد الفكر التقدمي غير التقليدي أنّهم كانوا كالمرآة التي تعكس الواقع، فسعى الجميع إلى تحطيمهم حتى لا يروا الحقيقة. ويستعرض الكاتب بعض الدلائل على خضوع العقل العربي لسلطان الأوهام والخيالات، كموضوع الأنساب التي تحرص عليها عائلات من عرب الجزيرة، وبناء شجرة للأنساب ترجع إلى عشرات الأجيال أمر يرفضه العقل والمنطق، لأنّه لم تكن توجد في الماضي أية وسيلة لمعرفة التسلسل الإنجابي لأي إنسان، ولم يكن هناك سجل مدني ولا شهادات ميلاد، بل لم تكن في الجزيرة العربية وثائق مكتوبة. وباستغلال وتر الأوهام، قام معظم الأفاقين في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، بإيهام البسطاء بأن لديهم ملكات خاصة واتصالات علوية بالسماء فخضعت لهم الغالبية فيما ظلت السلطة تستخدم هؤلاء الوسطاء لتخدير الشعب، كما أصبح “داء الكذب” أحد العيوب التي أسهم الخضوع للأوهام والخرافات في ترسيخها، فأصبح جزءا لا يتجزأ من الشخصية المصرية والعربية عامة، وصار مع الوقت قاعدة أساسية للتعامل بين الناس باستخدام محاور ثلاثة، هي: “التورية والمعاريض والتقية”. منذ سقطت حضارتنا في هوة التخلف، ظهرت في كل مكان وزمان حركة إصلاحية تبزغ قوى الرجعية وتنطلق حناجرها وتصيح بصوت يجلجل “للخلف در”، فتعود العجلة إلى الوراء ويدخل الإصلاحيون في الجحور في انتظار فرصة أخرى للظهور، ويؤكّد الكاتب أنّه -بالتأكيد- كانت هناك عادة خلفيات سياسية وراء اضطهاد العلماء والمفكرين والمجددين، وأنّ السلطة بطبيعتها تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم وتنبذ التجديد وتكره عدم الالتزام بالأطر الرسمية، كلّ ذلك يبرّر اضطهادهم من قبل السلطات الحاكمة. وإذا كان من الطبيعي أن يتعرّض المجدّدون والإصلاحيون لاضطهاد الحاكم، فإنّ الأزمة تكمن في أنّ هؤلاء استثاروا دائما غضب العامة ونفور الجماهير العريضة، لأنّ حراس الماضي ودراويش التقاليد صوّروهم على أنّهم خارجون عن الدين، ينتقدون الشريعة ويتهكّمون على المقدّسات، كما ظلّ الاجتهاد في الدين محرما شرعا لما يناهز ألف عام -منذ بداية القرن الرابع الهجري- حتى جاءت حركة الإصلاح التي قادها الأفغاني، وبالفعل نجح أقطاب النهضة والتنوير في تغيير شكل مصر والعالم العربي. لكن قوى الماضي وأنصار عقيدة “للخلف در” نجحوا في إجهاض كل الأفكار الجديدة وكل الرؤى الثورية، ويذكر الكاتب أنّ عقارب الساعة بدأت تعود إلى الوراء من جديد عندما قرّر السادات عام 1971 الاعتماد على التيارات الدينية لمواجهة خصومه ومعارضيه، وأعلن الحرب على المفكرين، المثقفين والمبدعين، وبموجب تركيبتها الفطرية المنجذبة إلى الماضي، كانت العقلية العربية مؤهلة لتقبّل هذه التوجّهات الجديدة-القديمة، أي عودة الفكر التقليدي المنغلق ونبذ كلّ جديد والتقوقع على الذات. من ضمن المسببات الرئيسية الأخرى لحالة التخلف التي يعيشها العالم العربي؛ “الجبر” الذي له جذور ثقافية وتراثية عميقة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ويؤكّد المؤلّف أنّه بالبحث عن جذور الجبر في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يجد أن منبعه جاء من داخل عقول علماء فهموا النص القرآني على أنه سلسلة من الأوامر والنواهي لا تسمح للإنسان بالاختيار والتدبر إلا في أضيق الحدود. وتحوّلت طاعة الله في السماء إلى طاعة البشر في الأرض، سواء بطاعة الحاكم، أو طاعة علماء الدين والشيوخ، وأصبح العقل العربي عاجزا تماما عن طرح الأسئلة خارج الإطار الرسمي بفعل فرمانات دينية من العلماء والشيوخ وأولي الأمر والسادة، مما أدى إلى وأد الحس النقدي الذي يعدّ الوقود المحرك لتطوّر المجتمعات. مشكلة أخرى لثقافتنا، تتمثّل في تمسّكها بالنظرة الثنائية المتمثّلة في التضاد بين نقيضين مثل الملاك والشيطان، الكافر والمؤمن، دار الإسلام ودار الحرب، ورغم أنّ هذه الثنائية تريح أصحاب العقلية التقليدية، فإنّ أخطر ما فيها - برأي الكاتب- أنها تُلغي تماما دور العقل، وتضع على الرف ترسانة القيم والأخلاق والمثل العليا والقواعد والقوانين التي تبلورت في المجتمعات الإنسانية من خلال تراكم الخبرات والتجارب. كما أنّ مرجعية الحلال والحرام بناء على فتاوى الشيوخ تعني أنّ الإنسان يُلغي عقله تماما ويلجأ إلى شارحي النصوص الدينية ويسلم عقله إلى مفسري الشريعة ليدرك الصواب من الخطأ، ويعرف كيف يتصرّف في أيّ موقف من مواقف الحياة. ويعتبر الكاتب أن ثنائية الحلال والحرام الجامدة من أهم العقبات التي تقف حائلا دون تقبّلنا لقواعد الديمقراطية، فبمنطقها لا سبيل للتفاهم أو الحلول الوسط، أمّا الديمقراطية فتقوم في جوهرها على توافق الآراء والسعي وراء الحلول الوسط والاقتناع بأنه لا يوجد طرف يمثل الحلال وآخر يجسد الحرام. من ناحية أخرى، يرى المؤلف أنّنا فشلنا فيما نجحت المجتمعات الأوروبية، وهو “قتل الأب” حسب التعبير الذي استنه مؤسس علم النفس سيغموند فرويد، ومعناه ليس القتل المادي إنما المعنوي، أي التخلص من سلطة الأب وكل سلطة فوقية أو مرجعية علوية تظل جاثمة على صدر الإنسان طوال حياته. ويؤكّد المؤلّف أنّه لا يقصد بذلك المطالبة بإعدام رؤسائنا أو قتل آبائنا، إنما إحداث قطيعة حاسمة مع مرحلة الانقياد الأعمى والخضوع والخشوع والاستسلام لأفكار وآراء أشخاص يهيمنون على عقول الناس، سواء هيمنة فردية أو جماعية، وفي الختام، دعا الكاتب إلى استثمار ماضينا العظيم، واستخدامه كأساس لبناء الحضارة المستقبلية، على أن نقوم بعملية “غربلة” لما هو صالح لعصرنا وترك ما هو غير صالح.