انشغلت الأممالمتحدة في الأيام الأخيرة بالقضية الأوكرانية بطريقة شاملة لا مثيل لها إلا عندما قامت القوات العراقية باحتلال الكويت يوم 2 اب/أغسطس 1990. الفرق بين التاريخين كبير. فتركيبة المجتمع الدولي تغيرت كثيرا في الثلاثين سنة الماضية. فبين التاريخين تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر ونستطيع أن نحدد أن مرحلة الهيمنة الأمريكية التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفييتي وإغلاق ملف الحرب الباردة قد انتهت عام 2003 عندما فشلت الولايات المتحدة أن تعتمد قرارا في مجلس الأمن يؤيد غزوها غير الشرعي وغير القانوني للعراق. كان ذلك التطور إيذانا ببداية أفول مرحلة القطبية الأحادية وقيام قوى صاعدة بدأت تطيح بالهيمنة الأمريكية على آليات العمل الدولي. تلك القوى بدأت تحاول فرض وجودها إن لم يكن بتغيير تركيبة تلك الآليات فبالحضور والتنسيق والتعاون وفرض الإرادة. وتقف الصين على رأس تلك القوى الصاعدة التي أصبحت ثاني أكبر ممول للأمم المتحدة، تليها روسيا التي بدأت تتعافى من فوضى انهيار الاتحاد السوفييتي وسنوات يلتسين العجاف، ثم الاتحاد الأوروبي الذي حاول أكثر من مرة أن يميز مواقفه عن مواقف الولايات المتحدة بقيادة ألمانيا. ثم مجموعة دول البريكس التي تضم البرازيل والهند وجنوب أفريقيا إضافة للصين وروسيا. تأتي اليوم اللحظة الراهنة التي تشبه الموقف الأمريكي عام 2003 معكوسا، حيث تذهب روسيا لغزو جارتها أوكرانيا من دون أن تجد تأييدا داخل المنظومة الدولية إلا من بعض الإشارات الخافتة من الصين وبعض الدول، ليس تأييدا للغزو ولكن تفهما للموقف الروسي الذي شعر بأن أمنه الوطني مهدد إذا ما تسلل حلف الناتو ليلتف قريبا من عنق روسيا. اجتماعات مجلس الأمن عقد مجلس الأمن أربع جلسات حول الوضع في أوكرانيا، ثلاث جلسات استماع يوم 31 كانون الثاني/يناير، وجلسة طارئة يوم 21 شباط/فبراير، على إثر التطورات الميدانية واعتراف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باستقلال الإقليمين دونيتسك ولوهانسك في منطقة دونباس شرق أوكرانيا. وجلسة طارئة أخرى مساء الأربعاء 23 شباط/فبراير وقد وصلت أخبار بدء العمليات العسكرية أثناء الجلسة حيث اضطر بعض المتكلمين أن يغيروا خطاباتهم لأنها كتبت قبل العمليات العسكرية. ثم قامت الولايات المتحدة يوم الخميس 24 شباط/فبراير بتوزيع مشروع قرار على الدول الأعضاء تحت الفصل السابع (فصل العقوبات والإلزام) ودعت لجلسة تصويت يوم الجمعة 25 شباط/فبراير. كانت الولايات المتحدة تعرف تماما أن مشروع القرار سيصطدم بالفيتو الروسي. لكنها كانت تسعى لفرض طوق من العزلة الشاملة على المندوب الروسي بالحصول على 14 صوتا إيجابيا أو على الأقل 13. فقد سعت لإرضاء الصين والهند والإمارات العربية المتحدة والتي أبدت تحفظا منذ البداية على استخدام الفصل السابع والإدانة بأقسى العبارات والتطرق في ديباجة القرار إلى الرئيس الروسي.
ومن أجل إرضاء الصين خاصة كي لا تستخدم الفيتو، تراجعت عن إدراج مشروع القرار تحت الفصل السابع. ومع هذا صوت لصالح مشروع القرار 11 عضوا فقط وصوتت الدول الثلاث الآنفة الذكر ب «امتناع» بينما أطاح الفيتو الروسي بمشروع القرار. إن تأييد 11 دولة فقط لمشروع القرار الأمريكي اعتبر فشلا للسياسة الأمريكية التي لم تضمن تأييد حلفاء أساسيين لها مثل الإمارات والهند وهو نفس المشهد عام 2003 عندما فشلت في اقتناص تأييد دول حليفة لها لغزو العراق مثل المكسيكوتشيلي والكاميرون. إنها صورة تثير الأسى: الآن تذكرت الولايات المتحدة وحليفتها الصغرى، المملكة المتحدة، القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة والبند الثاني من الميثاق المتعلق بسيادة الدول واستقلالها وسلامة أراضيها ضمن حدود معترف بها، بينما نسيت كل تلك الدروس عند غزو العراق أو أفغانستان أو بنما أو غرانادا أو فنرويلا أو نيكاراغوا أو تشيلي، أو عندما اجتاحت إسرائيل الضفة الغربية أو قطاع غزة أو جنوب لبنان. الجمعية العامة عقدت الجمعية العامة جلسة حول أوكرانيا الأربعاء 23 شباط/فبراير كانت أصلا مدرجة على جدول أعمال الجمعية تناقش فيها سنويا موضوع أوكرانيا وشبه جزيرة القرم منذ عام 2014. لكن الجلسة تحولت إلى بحث الأوضاع الحالية في أوكرانيا على ضوء التطورات الميدانية الأخيرة. كانت الرسالة الرئيسية لرئيس الجمعية العامة والأمين العام للأمم المتحدة هي الحث على التسوية السلمية للنزاعات والتذكير بميثاق الأممالمتحدة ومقاصد هذه المنظمة الدولية التي أنشِئت على أنقاض حربين مدمرتين. وأكد رئيس الجمعية، عبد الله شاهد، أن من مقاصد الأممالمتحدة الحفاظ على السلام والأمن وفقا لسيادة القانون، وأضاف أنه «إذا كانت السنوات ال 76 الماضية من وجود الأممالمتحدة قد علّمتنا أي شيء، فهو أن السلام الدائم لا يتحقق ولا يدوم من خلال الاشتباكات العسكرية، ولكن من خلال الحلول السياسية». وشدد على أن الطريقة الأكثر فعالية لتقليل المعاناة الإنسانية الباهظة للصراعات وعواقبها هي منع الصراعات في المقام الأول. وقد خاطب الجمعية العامة وزير خارجية أوكرانيا، ديميتري كوليبا، وطالب باتخاذ إجراءات سريعة وملموسة وحازمة، وضرورية من قبل الأممالمتحدة والمجتمع الدولي لوقف «المسار العدواني لروسيا». وقال: «نحن الآن في خضّم أكبر أزمة أمنية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. لقد تم خلق هذه الأزمة ويتم تصعيدها من جانب واحد، من جانب الاتحاد الروسي». ومن المتوقع أن تجتمع الجمعية العامة مرة ثانية في جلسة استثنائية لبحث التطورات في أوكرانيا بعد فشل مجلس الأمن باعتماد قرار يدين العدوان. وقالت السفيرة الأمريكية ليندا توماس- غرينفيلد، بعد الفيتو الروسي لمشروع القرار الأمريكي إنها ستتوجه الآن للجمعية العامة. لكنها لم تفصح ما إذا كان الاجتماع تحت آلية القرار «متحدون من أجل السلام» لعام 1950 والذي يمنح الجمعية العامة صلاحيات مجلس الأمن، في حالة فشل المجلس بالتصدي لأزمة تتعلق بالسلم والأمن الدوليين، إذا ما طلبت الدول الأعضاء جلسة استثنائية طارئة تأخذ قراراتها بغالبية الثلثين. قد تثير هذه المسألة توماس-غرينبلات وقد تحاجج بأهمية القرارات المعتمدة تحت آلية «متحدون من أجل السلام» لكنها هي والمندوبون الأمريكيون السابقون كانوا يحاججون دائما بأن تلك القرارات عبارة عن توصيات عندما يتعلق الأمر بفلسطين والممارسات الإسرائيلية. الأمين العام ظل الأمين العام للِأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش يعتقد أن غزوا روسيا لن يحدث، وأن الدبلوماسية في النهاية ستنتصر إلى أن حدث الغزو مساء الأربعاء. وفور خروجه من قاعة مجلس الأمن تحدث إلى الصحافيين واصفا هذا الوضع المستجد بأنه «أشد اللحظات حزنا في فترة عمله كأمين عام للأمم المتحدة». وأوضح أنه قد بدأ اجتماع مجلس الأمن هذا بمخاطبة الرئيس بوتين ومناشدته من صميم قلبه لوقف قواته عن شن هجوم ضد أوكرانيا، وأن يعطي السلام فرصة لأن الكثير من الناس قد ماتوا. غير أن الأمين العام غير نداءه عقب إعلان الرئيس بوتين أثناء الاجتماع عن «عملية عسكرية خاصة» في دونباس مطالبا القوات الأوكرانية بإلقاء أسلحتها. وقال غوتيريش من أمام قاعة مجلس الأمن: «يتعين علي أن أقول، للرئيس بوتين: باسم الإنسانية، أعدْ قواتك إلى روسيا. باسم الإنسانية، لا تسمح بأن تبدأ في أوروبا ما يمكن أن يكون أسوأ حرب منذ بداية القرن، ذات عواقب مدمرة ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا فحسب، ليس فقط مأساوية بالنسبة للاتحاد الروسي فحسب، بل ذات تأثير لا يمكننا حتى التنبؤ به». وأشار الأمين العام إلى العواقب المترتبة على الاقتصاد العالمي في الوقت الذي يخرج فيه العالم من جائحة كوفيد، وفي الوقت الذي يحتاج فيه العديد من البلدان النامية إلى مساحة للتعافي والتي ستكون صعبة للغاية مع ارتفاع أسعار النفط، ونهاية صادرات القمح من أوكرانيا، ومع ارتفاع أسعار الفائدة بسبب عدم الاستقرار في الأسواق الدولية. وقال: «يجب أن يتوقف هذا الصراع – الآن». هذا الموقف أثار حفيظة السفير الروسي لدى الأممالمتحدة، فيسالي نيبنزيا، الذي اتهم الأمين العام بأنه تجاوز دوره الحيادي. المنظمات الإنسانية جميعها حذرت من عواقب هذه الحرب على المدنيين. فقد أشارت المفوضية العليا للاجئين بأنه من المتوقع، فيما لو طالت الحرب، أن يصل عدد اللاجئين الأوكرانيين إلى خمسة ملايين لاجئي. وحذر المفوض السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من أن العواقب الإنسانية ستكون مدمرة على السكان المدنيين. وقال: «لا يوجد منتصرون في الحرب، ولكن سيتمزق إربا عدد لا يُحصى من الأرواح. لقد رأينا بالفعل تقارير عن وقوع ضحايا وبدأ الناس بالفرار من منازلهم بحثا عن الأمان». أسبوع من المداولات والجلسات المفتوحة والمشاورات والبيانات الرسمية والمؤتمرات الصحافية ومحاولة اعتماد قرار من مجلس الأمن من دون نتيجة. إنه مثال آخر على غياب العدالة من آليات الأممالمتحدة للمحافظة على السلم والأمن الدوليين. إنها لعنة الفيتو الذي سمح للدول الكبرى أو المحمية من الدول الكبرى كإسرائيل أن تغزو الدول الأضعف من دون حساب أو عقاب. نفس الخطاب نسمعه عن القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة واحترام سيادة الدول واستقلالها لكن الذين يلقون الخطاب يتغيرون مع تغير الأدوار والمصالح. الوسوم الأوكرانية القضية