يشكل الهم الذاتي لأي أديب مركب ذلول للتعبير عن الهم المجتمعي والهاجس الجمعي العام للأمة، باعتبار همه صورة من همومها وفرحه صورة من فرحها، ورواية (معانات جوليان ضحية التنصير) للروائي الجزائري الشاب ساعد قويسم، صورة جلية على ذلك فباتخاذه لمأساة حقيقية وقف الكاتب شاهدا عليها موضوع لإبداع روائي متكامل وفق في تصوير حجم التخريب الاجتماعي الذي يمكن أن تشكله ظاهرة التنصير في الجزائر. ظاهرة التنصير ارتبطت ارتباط وثيق بالاستعمار الفرنسي الذي استعمل التنصير كسلاح لتطويع الشعب الجزائري لمسخ هويته وكينونته التي ضلت طوال التاريخ حائط صد ضد كل المؤامرات الاستعمارية، وقد حاول الاستعمار الفرنسي عبر عديد المشاريع إبعاد الجزائريون عن دينهم وهويتهم كمقدمة لتذويبهم، ومن تلك المؤامرات مشروع الكاردينال لافيجري بمنطقة القبائل وعين الدفلى، ومشروع القس شارل دي فوكو بالأهقار وغيرها، وقد منيت تلك المشاريع والخطط بالفشل الذريع نتيجة للتدين الفطري للفرد الجزائري ، ويقظته لمرامي تلك الخطط الخبيثة. ومن هنا جاءت ورواية (معانات جوليان) لتصوير تواصل التأمر على وحدة الأمة وعلى نسيجها الاجتماعي العام بعد الاستقلال وحتى الزمن الحاضر، عبر قصة أشبه بالملحمة أتت في مخيلة مجنحة يمتزج فيها الوصف و الحكي بالنصائح الغائرة في ثنايا النص بدون هتافية سافرة...حكي ناصع متطور و سلس و موجه لكل شرائح المجتمع مشبع بالاستعارات و الإيحاءات التي تأسر لب القاري البسيط و يقف عندها الناقد والمفكر...فيها شيء من البراءة و ربما السذاجة أحيانا و فيها ذلك العمق الضارب في الغرابة.. خليط دافق من الحب و الحقد و الرهبة و الاعتزاز بالنفس يأخذك على حين غزة مستصحبا الخيال و الحقيقة و يضيف لها بروحه الشفافة مشاهد وفصول و تعابير كالأناشيد.. لا يتملق متلقيه.. بيد انه يرسخ لقيم الدين و ينسج حكاياته من الماضي و الحاضر معا..يقوي إحساسنا بالوطنية الحقة و فيها من السحر و الزخرف الذي يجبرك بان تعيش معه طقوسه الجمالية الرائعة. رواية(معانات جوليات..ضخية التنصير) الصادرة عن دار الفارابي ببيروت رواية موجزة إذ أنها من 119 صفحة فقط من المتوسط و لكنها قالت و عالجت الكثير من الموضوعات.. الأسرة.. الأدب..السياسة.. التاريخ و الجغرافيا و المهارات لشباب ناهض تجمد عند نقطة النضج ليضيع في متاهة الحياة الكبيرة و تضاريس الواقع القاسي و جاءت الجزيئات و الإحداث في تسلسل سهل ممتنع.. بلغة ممتعة و أحداث إنسانية رفيعة ، اشعر و كأن الكاتب أراد أن يوثق لزمن ما في الجزائر سيكون مادة حصبة للدارسين في المستقبل و تلك هي احدى فوائد النشر الهادف لترقية المجتمع و حفظ ذاكرته الجمالية و التاريخية علي السواء. و قصة الرواية تدور في مدينة ما من مدن الجزائر و اغلب الضن أنها في العاصمة ( كان على الكاتب تسمية المدينة و أحيائها لما يضيفه ذلك من حميمية مع القارئ). شاب جزائري من أسرة تغلب على سلوكها القيم الغربية، يتعلق سمير بطل الرواية بأخته الوحيدة رانيا تعلقا كبيرا مما جعله يصدم من وفاتها المأساوي بعد غدر خطيبها المتدين، و في أثناء صدمته لم يجد من يواسيه أو يخفف من صدمته، حتى دخل ميشال على الخط و هو منصر من جنسية عربية و الذي يحبك خطة جهنمية يستغل فيها صدمة سمير و حاجته للمواساة، و قلة تجربته في الحياة و أيضا ضحالة مخزونه المعرفي من القيم الإسلامية حتى يوقعه في حبائل التنصير و يغير اسمه إلى جوليان و يمنه بجعله نجما فنيا قبل أن يكشف سمير صدفة خطته و علاقته بهيئات تنصيرية أجنبية تخطط للإساءة للجزائر، فتتعقد نفسيته من جديد و يحاول الانتحار لكنه يفشل، و بمساعدة صديق جديد(حسام) و إمام مسجد متنور استرجع شخصيته و انتصر في تجربة حياتية مريرة. جاءت أحداث الرواية منسقة حسب تسلسلها الزمني و تجاورها المكاني و كان هناك الاسترجاع و الاستعادة للصور و الأفكار و القضايا و كل صور جديدة بخيال خلاق و ذاكرة متحركة برغم تمركز حيثيات الرواية في المكان و الزمان..ركام الصور يخلق عالما مثاليا و بذلك لا ينضب معين كاتبنا بعوالمه الحقيقية و التخيلة و عالمه الفني الغني لذلك وفق أيما توفيق في اجتراح إبداع رائق بذهنه الصافي و قدراته في اكتشاف تعرجات النفس الإنسانية بكل ما فيها من أحاسيس و مشاعر. إذا احكمنا حاستنا القرائية و القينا نظرة فاحصة حول مختلف مقاطع و وحدات السرد و مواقف شخوص الرواية و بعض من حالات(البناء الروائي) فإننا سوف نعثر على ملامح ترشدنا على الاقتناع بإنتاجية خطاب نص (معانات جوليان) هو استنطاق بناء فضاء روائي محكم،و حبكة عضوية متماسكة و معنى هذا أنها تقوم على حوادث مترابطة تسير في خط مستقيم حتى تبلغ ذروتها، تمنحنا و في كل مرحلة بنائية من زمن خطابية النص، شعورا بان ما قد نقرئه ما هو إلا تضافرا اختباري يجمع بين عالمين متنافرين داخل نسيج فضاء سردي مباشر و هو المستعمل في القصص الملحمية و التراجم الذاتية، مع اللجوء في بعض الأحيان للمنولوغ الداخلي ، حيث نلاحظ بان هناك الكثير من المشاهد و الحالات السردية قد ارتبطت ضمن بنية فضاء قصصي، و للتدليل على التفاعل بين بنية الكاتبة الروائية و الفضاء القصصي، نرى أن استخدام الترتيب الزمني الطبيعي على مستوى السرد، قد اخذ حدود حكائية تقليدية، فهناك في الرواية مواضيع كثيرة تشير على ان زمن النموذج القصصي هو المهيمن الأول على أدائية بنية الإنتاج الروائي في نص الكاتب الشاب ساعد قويسم. عدم تقسيم النص السردي إلى أقسام أو فواصل خلق إرباك و ربما ضيق للقارئ المعاصر المستعجل.و على ما مثله الخط الدرامي المشوق في الرواية من تطور منهجي متناسق، بقدر ما يفاجئنا في ص 76 من استعجال غير مبرر في الكشف عن النوايا السيئة لميشال، لان المكان و الزمان الروائي كان يفترضان زيادة جرعات التشويق، لا التقليل منها بل إفقاد حل العقدة جزء غير قليل من بريقه. في الأخير نحن اليوم أمام لحظة ميلاد موهبة أدبية سيكون لها شان.في الرفع و التنويع من انساق النصوص النثرية الجزائرية و في القلب منها الرواية.على أن لا يتوقف عن الإبداع و التطوير و صقل موهبته و ليعلم أن أصعب الأمور بدايتها و هاهو قد تخطى عتبات البداية، فحض موفق في طريق النصب و التعب لزرع الدهشة و النور في القلوب المكدودة اليائسة و رسم البسمة على الشفاه البائسة.