اليوم حيث يتجه العالم باندفاع شديد نحو ما يسمى بالعولمة، تتحول الثقافة إلى ثقافة عالمية واحدة، والاقتصاد يخضع لمنظمة التجارة الدولية، والسياسة تديرها منظمة الأممالمتحدة والمتمثلة في مجلس الأمن الدولي، وهناك العشرات، بل المئات من المنظمات والمؤسسات ذات الصبغة الدولية تحاول جعل هذا العالم الواسع والمتعدد الأطراف قريةً صغيرة تدعى بالقرية العالمية التي يسيرها الإعلام والمعلومات، حتى دعي هذا القرن بقرن المعلومات. في مثل هذه التحولات يعيش الإنسان تحديات كبرى، قد تزول أمامها شخصيته، ومن أهمها تحديه في كيفية تربية أبنائه، وذلك لأنهم من سلالته، بل وامتداد وجوده في الحياة. ولأنهم يحملون صفاته التاريخية التي يطمح إلى بقائها حتى بعد مماته، ولكنه يرى ذريته هذه تتلاقفها شبكات الانترنت والتلفزة العالمية ووكالات الأنباء التي من مهمتها قولبة الجيل الجديدة والأجيال التي تليه وفق ما يرتئيه أصحاب هذه الشبكات الأخطبوطية الرهيبة. هناك من الآباء الذين يحاولون أن يجعلوا أولادهم نسخة ثانية عنهم، وكأنه يرغب في أن يتكرر بولده. وهناك من يتجسد في إصرار الآباء على تسليم أولادهم إلى الشارع والمجتمع والتيارات الجارفة مطلقين لهم العنان. ومن الطبيعي أن يكون لكل من النوعين أسبابه ومبرراته وبالتالي نتائجه. فالنوع الأول يبدو أنه نابع من تكرس الأنانية في شخصية الأب، حيث لا يعرف من الحياة إلا نفسه، فهو يرى ما يفعله صحيحاً وما يتركه خطأً، جاهلاً بأنه كائن معرّض كغيره للخطأ والسقوط، وهذا يتبعه كون الأب ذا شخصية متكبرة على من وما حوله من حركة وحياة. ومثل هذا الأب يغفل عن أنه جاهل بنفسه هو قبل جهله بغيره، فهو جاهل بضرورة إيلاء الثقة بمن يستحقونها لكي يوفر الفرصة أمام أولاده في محاكاة الآخرين. كما أنه جاهل بطبيعة الإنسان المتغيرة بتغير الزمن، فالله سبحانه وتعالى حينما خلق في الإنسان حب أو غريزة تقليد الآخرين بمن فيهم الآباء، قد خلق فيهم رغبة أخرى، وهي رغبة التحدي والاقتحام وإثبات جدارة الذات. إلا أن إصرار الآباء على أسلوب الاستنساخ، يعتبر إصراراً على محاربة الفطرة الإنسانية التي جعلها الله عز وجل متنوعة الأشكال، وذلك من أجل إتاحة الفرصة أمام هذا المخلوق، وهو الإنسان لكي يختار ما يريد، سواء الشر منه أو الخير. فحركة الزمن حركة متغيرة، وكل جيل من الأجيال يأتي مع زمن جديد وظروف جديدة تفرض عليه التأقلم، الذي يعود بغير الضرر عليهم، ذلك لأن ترك الأبناء في حرية مطلقة في التعامل مع تفاصيل الحياة اليومية، يعني قطع العلاقة والرابطة والحوار بين الآباء وأبنائهم، وهو تجاهل فاضح لحق الأولاد على آبائهم، إذ أنهم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم ويجنبهم الكثير من السقطات التي هم في غنىً عنها، بل إن كثيراً من أشكال الانحراف يؤدي بالأولاد إلى نقطة لا رجعة عنها. ولتنتقل عبر هذه الحقيقة وغيرها التجارب البشرية والتاريخية من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى. ضرورة وعي الآباء لأهمية تربية أولادهم على خلاصة التجارب المكتسبة، ومن ثم تركهم باتجاه التطبيق أو الاستفادة منها. وإذا جاوز تدخل الآباء في تفاصيل حياة أولادهم الحدود المعقولة، فهذا يسلب منهم قابلية التفكير والاعتماد الإيجابي على الذات. وها هي الدراسات النفسية ترى في الإفراط والتفريط في صلاحية الآباء في التربية عاملاً من عوامل تدمير الأولاد، إذ هم في مرحلة يتبعون أولادهم خطوةً خطوة، حتى يروا أنفسهم محاصرين خلالها من كل جانب، وفي مرحلة أخرى يرون أنفسهم ضائعين دونما ملجأ يأويهم من المخاطر. فالأولاد بحاجة إلى من يدلهم على الطريق فقط، وليس إلى من يأخذ بأيديهم إلى النهاية. والتجارب ثبتت أن الحقيقة القائلة "بأن كل وقوف يسبقه تعثر أو سقوط"، فالطفل لا يتلذذ بنجاحه في الوقوف ما لم يسبق ذلك عثرات وسقطات، وهذه السقطات لا خطورة فيها على بدن الطفل أبداً، بل يبدو العكس صحيحاً، حيث أنها هي التي تقوي بدنه وتدفعه نحو التحدي والوقوف، وذلك كله يتم دون توجيه من أحد، فكذلك هي الحياة حيث على الأب أن يقول لولده عليك أن تختار الصديق ذا الأخلاق الحميدة، دون أن يسمعه محاضرات وتحذيرات لا تجد لها الآذان الصاغية، وليس أحسن من مصاحبة الأبناء في المرحلة الحرجة من حياتهم لمرافقتهم دون التأثير في شخصيتهم التي تولد معهم لأنهم ليسوا ملكنا بل استمرار لنا .