خلال العشرين سنة الماضية فرضت على بعض دول الخليج العربي منازعات وخلافات من التبسيط والاختزال مردها إلى عامل واحد هو العدد المتزايد للوافدين إلى هذه الدول الصغيرة بحجمها وعدد سكانها، فقد حملت وتحمل هذه الوفود أو ما يمكن تسميتهم السكان الجدد لدول الخليج العربي ثقافتها وعقيدتها ولغتها، زيادة عن ذلك فقد فرضت نمط حياة وأنشطة اقتصادية حسب ميولها وتقاليدها، ولعل أهم ما يواجه الدول الخليجية اليوم بجانب القضية الرئيسية ''تفوق نسبة السكان الجدد على السكان الأصليين'' القوة العسكرية المتنامية للجمهورية الإسلامية الإيرانية والتدخل الأمريكي في المنطقة بقواعده العسكرية، لعل هذه الدوائر الثلاث ذات الأهمية القصوى إقليميا ودوليا، من أهم ما يواجه دول الخليج العربي في هذه الفترة وفي المستقبل القريب، لذلك قال النفيسي أنه يجب على بعض الدول الخليجية أن تنظم إلى السعودية حتى لا يُعصف بوجودها في المستقبل القريب لكن الدكتور لم يوضح لنا كيف سيكون هذا الإندماج وهل السعودية قادرة على ذلك؟ أعتقد أن القضية الأكثر إلحاحا اليوم بين دول الخليج العربي هي إحلال التفاهم بينها أولا ثم البحث عن فكرة الدكتور النفيسي وأهميتها الإقتصادية والسياسية والثقافية، وشروط تطبيقها، لكن النظام في السعودية غير ديموقراطي وهناك خلافات حادة مذهبية والتباين في المواقف، وأكثر من ذلك هل أن الملوك والأمراء الخليجيين مستعدون لترك مناصبهم والاكتفاء بمنصب والي مثلا....؟ إن أكبر تهديد تعرفه بعض دول الخليج العربي هو خلق هوية ذات مفاهيم وقيم هجينة تغير فيه مقومات الشخصية الأصلية.. والسؤال المطروح: هل هناك مانع من التمسك بالهوية والتفتح على غيرنا...وكما قال أحد المفكرين: '' إن أكبر سبّة أن تُنسب إلى مجتمع لا تحمل محدداته وصفاته الجوهرية...'' من المعروف أنّنا لا نستطيع أن ننكر دور القبيلة في الحياة العربية، فمنذ القدم عرفت الجزيرة العربية عرب الشمال والجنوب، العدنانيين والقحطانيين وعندما هاجروا إلى الجزيرة من موطن إلى موطن حملوا معهم روابطهم، ومن الممكن أن تتعايش الروابط، من الممكن أن تصبح وحدات منظمة تتحرك مع القيادة إلى أهداف الاندماج، ومن الممكن أن تصبح قوى ضاغطة في العالم نظرا لما تحتوي أراضيها من كنوز وهذا ممكن تحقيقه، إذا نظرنا إلى ما تحقق في أوروبا رغم الكثير من جوانب الاختلاف العرقي واللغوي والمذهبي والحروب التي قامت بينها لعدة قرون، فقد استطاع القوم هناك أن يتخطوها إلى صورجديدة من التعاون، وأخلت الحروب والمعاهدات مكانها لسوق أوروبية مشتركة، وبرلمان أوروبي وتعاون علمي وتقني..، ويقول في هذا الصدد الفيزيائي الباكستاني الذي نال جائزة نوبل للعلوم سنة ,1979 '' كل أمة تغفو فتكبو، ثم تصحو فتنهض....'' ويضيف.. أمتنا قد طال سباتها وأصبحت جسدا مسجى في غرفة الإنعاش؟ نريد سريعا ''حقنة الحياة'' لنتدارك آخر قطرات الدم في الوريد قبل الجفاف فهل نحن فاعلون؟ هذا القول يؤكد ضرورة أخذ فكرة الدكتور النفيسي مأخذ الجد واستبعاد كافة العقول المتجحرة للوصول إلى الهدف المنشود، ومن المخجل حقا أن لا تجد أحدا يكلمك باللغة العربية وأنت تتجول في شوارع أبوظبي، لقد سمعت أحد السياسيين يقول في إحدى القنوات العربية ''لقد خجلت من نفسي عندما دخلت مع بعض الأصدقاء إلى مطعم في أحد شوارع أبوظبي عندما قال لنا العامل أننا نعمل هنا باللغة الإنجليزية ولا مكان هنا للناطقين باللغة العربية، أنني مجبر على تعلم اللغة الإنجليزية حتى أتأقلم مع الحياة في بلادي، إنها كارثة ولكنها الحقيقة. في السنة الماضية زار أحد الأصدقاء الإمارات العربية المتحدة وكانت فرحته لا توصف بسبب ما شاهده في الإعلام من بناء وتشييد في هذا البلد الشقيق ولكنه عاد من هناك حزينا ولم يكمل زيارته وقال لي بالحرف الواحد: لمدة أربعة أيام لم أسمع كلمة واحدة باللغة العربية وأكثر من هذا أنني لم أجد أي شيء من المواد صنع في الإمارات فهل تعتبر ناطحة السحاب والحدائق والجزر الإصطناعية تقدما..؟ ولربط تصريح النفيسي والمقارنة التاريخية نجد أن المؤرخ البريطاني الذائع الصيت ''ارنولد توينبي'' يعتقد أن وحدة الدولة العربية آتية ويقارن ذلك بتوحيد ألمانيا وتوحيد إيطاليا ويقول عن هذا التوحيد ''استغرقت عملية التوحيد ستا وخمسين سنة وأعتقد أن العرب سينجزون وحدتهم بسرعة الألمان والإيطاليين نفسِها'' لكن للأسف الشديد ها قد مضت سنوات عدة على التاريخ الذي حدده توينبي لتحقيق الوحدة العربية استنادا إلى بعض المقارنات التاريخية، ولا أعتقد أن هذه الوحدة قريبة المنال في الوقت الحاضر بسبب الخلافات العربية وليس معنى ذلك أنّ المشروع الوحدوي العربي محكوم عليه بالإخفاق؟ وانطلاقا من ذلك كله فإن الأقوام الأخرى التي تعيش على أرض الخليج تعتبر جزءا منه من الناحية السياسية وتتطلع إلى العثور على معادلتها السياسية مستقبلا أي في محاولتها بناء الدولة حسب ثقافتها ومعتقداتها وهي أكيد تعمل سرا لتحقيق هذا الهدف وهو هدف أيسر منالا إذا أرادت أمريكا ذلك، لذلك فإن فكرة الدكتور النفيسي جاءت في وقتها لإنقاذ ما يجب إنقاذه وربما يتحقق ذلك لنستفيد نحن أبناء المغرب العربي من هذه الفكرة ونطالب دول المغرب العربي بالانظمام إلى الجزائر بحكم أنها أكبر دولة مغاربية ولها ثروات كبيرة تكفي لكامل الدولة المغاربية كما قال المرحوم جمال عبد الناصر ''الجزائر تكفينا وتكفيهم؟ وهذه الأفكار ليست أفكارا خيالية كما يعتقد البعض، فعندما يتأمل الواحد منا الطريقة التي صنعت بها الوحدة الأوروبية وهم أشتات من أمم وقوميات ولغات فمن الغريب أننا أمة واحدة، وقومية واحدة ولغة واحدة وتاريخ واحد، جغرافيا واحدة، ولا نستطيع أن نصنع ما صنع الأوروبيون، أعتقد أن السنوات المقبلة من المتوقع أن تشهد دول الخليج تحولات إيجابية من الناحية الإقتصادية وهذا بدوره يؤدي إلى تحولات سياسية في ظل التنافس الدولي والمصالح المتشابكة بين الأطراف الإقليمية والدولية وسعي إيران إلى تعزيز موقعها في العالم العربي فقد أضحت هذه المسألة الأخيرة لا تشغل مكانة ذات شأن لدى صانع السياسة الأمريكية اتجاه العالم العربي بل أنّ الولاياتالمتحدة وحلفاءها الغربيين سعوا إلى تدعيم أنظمة غير عربية لاعتبارات مصلحية سياسية واقتصادية الهدف منها التخويف والضغط. وما يُرعب دول الخليج حاليا هو، ربّما تطور الخلاف الغربي الإيراني إلى حرب لا سمح الله، وبالتالي فقد تحدث هناك كارثة لم يسبق لها في التاريخ. ربما تفطن الدكتور النفيسي لذلك وجاء بفكرته، وخاصة في ظلّ إخفاق دول مجلس التعاون الخليجي في دفع عملية الاندماج الإقتصادي والسياسي فأين العملة الموحدة التي كان من المفروض أن تبدأ العام الماضي؟ لهذه الأسباب وغيرها أصبحنا كما قال الدكتور إبراهيم البليهي ''نحن العرب مازلنا عالة على المزدهرين، بل لم نكتفِ بذلك وإنما أصبحنا نعوق حركة الإزدهار في العالم كله''. من المفيد التذكير بأن الدكتور النفيسي يعتبر من أهم المحللين السياسيين في الوطن العربي وخاصة بخرجاته غير المتوقعة وحنكته السياسية جعل المواطن العربي يبحث عنه في القنوات العربية لعله يسمع منه ما يشفي نفسيته وهو عضو سابق في مجلس الأمة الكويتي. نشكر الدكتور على فكرته هذه وهي ليست غريبة عنه بل هي من صميم أخلاقياته وتوجهاته ونظرته الشمولية لتوحيد بلدان مجلس التعاون الخليجي فإن أصاب فله أجران وأن أخطأ فله أجر واحد وهي أنه فتّح عيون شعوب هذه الدول لعلها تكون بداية لدفع عملية الاندماج في بوتقة مجلس التعاون الخليجي الذي إن تحقق فسيبعد فكرة الدكتور النفيسي ويرميها في سلة المهملات.