الخطر دوما من البحر، والعين دائما عليه، وهذه إحدى أهم قواعد إستراتيجيتهم العسكرية، فقد تم تأمين معظم الحدود البرية للكيان الصهيوني. عدا الجيب اللبناني والسماء جرى تحصينها بالطائرات والصواريخ، ولم تتكرر تجربة عمليات الطائرات الشراعية، التي اعتمدتها جبهة التحرير الفلسطينية في بداية ثمانينيات القرن الماضي. وكان لمقتل أبو العباس-الأمين العام للجبهة- في سجون الاحتلال الأمريكي ببغداد، علاقة وثيقة بتلك العمليات. فالصهاينة يخشون البحر، لأنه كان طريقهم غير الشرعي إلى فلسطين، وهم اليوم يعتبرونه تحت سيادتهم. لقد أشكل الحدث على جميع المراقبين، والمتتبعين لقافلة "أسطول الحرية"، وكانت الصدمة والدهشة معا، في قيام البحرية العسكرية الصهيونية باعتراض واقتحام سفن المساعدة الإنسانية المدنية، في عمق المياه الدولية، مع أن القادة الصهاينة، كان باستطاعتهم انتظار دخول السفن إلى مياههم الإقليمية! ومن ثم اعتراضها وأسرها، بحجة الإبحار غير الشرعي في إقليمهم المائي؟ وكان السؤال لماذا صنعوا ذلك؟ وهل نفذ صبرهم حتى يكونوا هم قراصنة البحر الأبيض، الذي يعد في العرف الدولي بحرا داخليا "آمنا" كفاح جرار . "عقيدة وعقدة" العارفون لحقيقة الإيديولوجيا الصهيونية، لا يدهشهم هذا القرصان الجديد، وربما كان سيثير استغرابهم لو لم يصنع ذلك، فالصهاينة الذين أقاموا دولة ليس لها دستورها ولا حدودها، يعتبرون البحر المتوسط منطقة نفوذ حيوية، ويشاطرهم الرأي في ذلك العسكرية الأمريكية الذين يعتبرون أعالي البحار مناطق خاصة بهم، لذلك لم تشجب الإدارة الأمريكية العملية الصهيونية، بل واعتبرتها "دفاعا عن النفس" مع اعترافها بمدنية السفن، وأنها تحمل مساعدات إنسانية، ولكن التحدي كان من الطرفين، ويتجلى بالضبط في السماح باختراق الحصار المضروب على قطاع غزة أو منعه. ومن الخطأ أولا اعتبار هذه المحاولة وغيرها، كسرا للحصار، فهذا لن يكون إلا بإلغاء الحدود نهائيا بين القطاع ومصر، فهي إذن اختراقات تشبه بالمفهوم العسكري الصهيوني، عمليات التسلل الفدائية الفلسطينية إلى الوطن، لذلك تعاملوا مع الأسطول بنفس الطريقة والعقلية، وهذه منهجية التفكير التلموذي الذي يروجون فيه لمسألة "الماسادا" والقرى المحصنة المعروفة بالمستوطنات أو المستعمرات. والحقيقة الثابتة أن الدولة الصهيونية لم تكن لتتحدى العالم في قرصنتها تلك، إلا وفق اتفاق سري أو ضمني مع دول المتوسط القوية، في اعتبار هؤلاء لهذا البحر منطقة نفوذ هي كالمياه الإقليمية تماما. وهذه مفاهيم جديدة لتفسير وقراءة القانون الدولي الخاص بالبحار، طالما كانت حدودهم الحيوية، إلى المدى الذي يشكل خطرا عليهم، وهم على سبيل المثال يعرفون تماما أن إيران النووية لا تشكل أي خطر عليهم. هذا لو امتلكت إيران السلاح النووي، لأن طهران ببساطة شديدة لا تستطيع استخدام هذا السلاح بأي شكل كان، دون أن تعرض كل فلسطين ومعها لبنان، سوريا، الأردن ومصر، وحتى قبرص للفناء والدمار، ونشير هنا إلى جدار الفصل العنصري الذي اكتملت معظم مراحله، وهو يفصل المناطق العربية الفلسطينية عن كيانهم. فهل سيمنع هذا الجدار التأثير النووي من تدمير الضفة الغربيةوغزة، وذلك في أضعف الاحتمالات، أي لو استخدمت قنبلة ذرية أقل قدرة تدميرية من قنبلة هيروشيما بكثير. ثم إن شرعية السؤال وحقيقته تتعلق بالقنبلة النووية الباكستانية، فلماذا لم تهدد الدولة الصهيونية بضرب الباكستان التي تمتلك القنبلة فعليا، مع العلم بأن إسلام آباد تصنف تل أبيب ضمن قائمة الأعداء، وقد رفضت الراحلة بنازير بوتو زيارة مناطق السلطة الفلسطينية يوم دعاها عرفات – رغم رغبتها بذلك- لأن الصهاينة اشترطوا عليها أن تدخل الضفة وغزة من موانئهم. فهل تشكل طهران الإسلامية خطرا عليهم، وباكستان الإسلامية لا تشكل نفس الخطر؟ إذن علينا إعادة قراءة العقيدة العسكرية الصهيونية من جديد، فهؤلاء لا يخشون النووي الإيراني، ولا يحسبون له قيمة، وإنما كل خشيتهم من السلاح التقليدي الإيراني وخاصة الصواريخ والطوربيدات والزوارق العسكرية السريعة، وقد عرفنا ذلك مؤخرا بشكل واضح، فيما قيل عن صواريخ بعيدة المدى جرى دعم حزب الله بها عن طريق سوريا، وحينها قال وزير الخارجية السوري ردا على تلك المزاعم " حتى لو أردنا تزويد حزب الله بصواريخ سكود، فإنه سيرفضها، لأنها صواريخ ضخمة ومكشوفة ويصعب نقلها أو التمويه عليها " وإذن فإن حكاية الصواريخ صحيحة ولكن ليس كما أشاعت الإدارة الأمريكية ومعها تل أبيب. وإنما هي الصواريخ والطوربيدات البحرية الصغيرة والسريعة التي هدد بها زعيم حزب الله، وقال إن باستطاعتهم إغلاق كامل المياه الإقليمية الإسرائيلية، وضرب أي سفينة تحاول الإبحار نحو فلسطينالمحتلة. وقد جربت البحرية الإيرانية هذه الأسلحة في مناوراتها الأخيرة، وأثبتت كفاءتها وجدارتها، وهو الأمر الذي تابعه الصهاينة عن كثب، وجاء كشف نصر الله ليؤكد حقيقة ما قيل حول الصواريخ، وبالتالي كانت خشية قادة الكيان الصهيوني من السماح لأسطول حمل سيف التحدي، بالوصول إلى غزة، لأن الحصار كان سوف يكسر لاحقا بأسطول آخر وآخر. وليست غزة بعيدا جدا عن تل أبيب، إذ يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وإذن فإن التنازل لمرة واحدة، يعني في العرف الصهيوني التنازل دائما، وهذه هي عقيدة وعقدة "الماسادا" فهم بناء عليها على استعداد للموت، أو محاربة الجميع، من أجل أنفسهم، أو على الأقل للحفاظ على هيبتهم، حتى لو أدى الأمر لخسارة تركيا وغيرها. "الأنا فقط" من هنا يمكننا فهم الإصرار الصهيوني القديم، لامتلاك السلاح النووي رغم أن الجميع على استعداد للدفاع عنهم، في حالة الخطر المحدق، ونذكر هنا بأن أول شحنة عسكرية وصلت إلى الصهاينة، كانت من دول الكتلة الشرقية السوفياتية، فور إعلان دولتهم، وكانت من تشيكوسلوفانيا تحديدا، وهو ما عرف بقضية الأسلحة التشكيلية التي مكنتهم من الوقوف بوجه القوة العربية الشعبية المسلحة. فلم القرصنة ولم النووي إذن؟ إن الصهاينة بعقيدة التمحور التي تشير المؤسسة العسكرية الرسمية عندهم، يؤمنون بأن الدم اليهودي، حتى لو كان من شخص واحد، يساوي أمة بأكملها من الاغيار (وهؤلاء الأغيار أو الغوييم هم كل من ليس يهوديا) وهم لا ينتظرون حتى يسيل دمهم، وإنما ينصب جل اهتمامهم على ألا يصلوا إلى المرحلة التي يراق فيها دمهم، أي الحيطة والحذر والوقاية. لذلك تعددت أجهزتهم الأمنية وتخصصت، وجميعها تعمل للوقاية من الخطر قبل وقوعه حتى بسنوات، وبناء على ذلك، صنعوا السلاح النووي بطرق سرية وعنيفة وبقرصنة استخباراتية قذرة، لأنهم يؤمنون بما في أيديهم فقط، وقد أعلن رئيس وزرائهم الأسبق اسحق شامير، بأنهم على استعداد لضرب الولاياتالمتحدة بسلاح الدمار الشامل، إن اقتضى الأمر، وتعارضت مصالحهم مع واشنطن". وقد أحتج الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان، فأعاد شامير تكرار نفس الكلام، ما يعني أن عقلية الفيتو الأحادية، هي المسيطرة والحاكمة في تل أبيب، وفي العقيدة الصهيونية عموما، لهذا رفضوا حتى الساعة ترسيم حدود دولية لهم، ويعتبرون أي "يهودي" يؤيد دولتهم، هو من رعاياهم حتى لو لم يفكر في الهجرة إلى فلسطين، ومهما كانت الجنسية التي يحملها، فطالما يؤيد قيام الدولة الصهيونية، فإنه لهم ويقع تحت مسؤوليتهم. ومن المفيد التذكير أن الباخرة الإيرلندية التي تخلفت عن بقية سفن الأسطول، وجرى أخيرا الاستيلاء عليها، ونقلها إلى ميناء أسدود تحمل اسم راشيل كوري، وهو اسم شابة أمريكية قضت نحبها في غزة قبل سنوات قليلة، تحت جنازير جرافة إسرائيلية، كانت تقوم بهدم بيت عائلة فلسطينية، قضت معهم راشيل كوري عدة أسابيع كضيفة متضامنة، وقد أسفت الإدارة الأمريكية يومها على مقتل مواطنها، ولكنها في المقابل أبدت تفهما لما وقع. والحق، لو كان ما تعرضت له كوري، حدث في دولة عربية فإن القضاء الأمريكي كان سيلاحق تلك الدولة بزعامتها، ولكن الدولة الصهيونية "ليست فوق القانون" كما يقولون، وإنما هي دولة مغفورة الخطايا بالنسبة لما يدعى "العالم الحر". وكل ما تقترفه من جرائم بحكم القانون الدولي، لا تنطبق عليه صفة "الجريمة" لأن تلك الدولة عندهم، لها مطلق الحق في عمل ما تراه حفظا لأمنها وسلامتها، ومفهوم الأمن والسلامة هنا، غاية في المطاطية والشمول والاتساع، بحيث فقط ما يقرره الصهاينة عن أنفسهم. وكما قرصنت الدولة الصهيونية السلاح النووي، فإنها – أو وفق شرعتهم من حقها- أن تقرصن كل ما تراه خطرا عليها، وإن من باب التوهم والخداع، وقد حدث ذلك حقا. فقد وقعت مجزرة صبرا وشتيلا بعد اجتياح بيروت عام 1982، لمجرد الظن بأن هناك 600 فدائي فلسطيني يتواجدون في المخيمين، وفي النهاية ظهر أنه لم يكن فيهما سوى الأطفال والنساء والعجائز. ثم وقعت مجزرة قانا الأولى والثانية، لأنهم ظنوا خطأ أن الصواريخ تطلق من تلك البلدة نحو الأهداف الإسرائيلية، ثم وقعت مجزرة بعلبك لأنهم ظنوا أن عمال الزراعة السوريين ينقلون الذخائر، وكانوا قبل ذلك قد أسقطوا في منتصف السبعينات المنصرمة، طائرة مدنية ليبية فوق صحراء سيناء، لأنهم ظنوا أنها طائرة تجسس، فهذه دولة يحكمها الظن الأمني، وهو مشروع ومبرر من الدول الغربية، وليست تركيا الحليف السابق، بذات أهمية عندهم لأنها قررت التحدي في المسألة الأمنية، فكانت القرصنة الصهيونية دموية وعنيفة، وهم كانوا قادرين على تجنب ذلك، ولكنهم أرادوا ردة فعلهم أن تكون فعلا قاسيا ومدويا، فكانوا بذلك "صناع حدث حقيقي" تجاوزوا رد الفعل ّإلى الفعل، وكان هدفهم جس نبض ردة الفعل الدولي الرسمي الفاعل، لأنهم كانوا ينتظرون ضغوطا وصنفت بالحقيقة من جانب الإدارة الأمريكية، بخصوص القدس والمستوطنات، وكان لهم ما أرادوا، ولكن؟ هل دوما أو حقا خطاياهم مغفورة ويتم تجاوزها والتسامح عنها؟ إن التحدي التركي، في الإعداد لأسطول حرية آخر، ومشروع الإدعاء العام في أنقرة بجميع الدلائل لتوجيه التهم في الإبادة ضد بعض القادة الصهاينة، سوف يصنع ولا شك من أنقرة، دمشق أخرى لن تقوى بعدها تل أبيب على احتمال هذا الحجم الهائل، من الأعداء الحقيقيين الذين جربت إسرائيل صداقتهم، وعليها اليوم أن تجرب عداوتهم. PAGE