"يا أيها المطر القادم إلينا بعد قليل.. عصا الراعي انكسرت.. والخرفان المُشاكسة الجميلة قتلت.. يا أيتها الغيمات أين ستسكبين قطراتك وشجر الزيتون والنخيل من جذوره اقتلعوه.. والحقول الخضراء والمروج مسحوا لونها.. البيت بحديقته أبادوه... يا مطرنا العزيز قريتنا لم يعد لها وجود".رسالةٌ خطّها بحروفٍ دامعة أهل قرية جُحر الديك الواقعة جنوب شرق مدينة غزة.. رسالة رددوها " بحناجرٍ مجروحة لا تكاد تُصدق هول ما أصاب قريتهم الجميلة الهادئة التي أبادت آلة الحرب الإسرائيلية المجنونة 90% منها، لا لسبب سوى "الإبادة من أجل الإبادة والانتقام من شعب غزة الصامد" بحسب تعبير أحدهم".فبعد أن انقشع غبار الحرب الإسرائيلية على غزة، وهدأ صوت الموت، اكتشف أهل القرية أن "جُحر الديك" مأواهم وموطنهم أزيل عن خارطة القطاع بشجره وحجره وأرضه.لحظة وصولنا إلى هناك كانت السحابات تتكوم في السماء تشي بسقوط مطر غزير.. لكن سكان القرية البالغ عددهم حوالي 5 آلاف لم يصفقوا للغيم كعادتهم، ولم يُهلل الصغار؛ فالمطر النازل هذه المرة سيصطدم بزرع ميت وجذور محروقة ومنازل سقطت أرضا. أين البيوت؟ صعبٌ أن نمشي في طرقاتٍ تداخلت حجارتها وتكومت.. في كل خطوة كان التعثر والسقوط من نصيبنا.. لا أثر لشيء سوى الخراب الهائل والدمار الواسع الذي أسكت حبر القلم وردم عين الكاميرا.بيوتٌ لم تكتفِ دبابات الاحتلال وجرافاته بتدميرها بل سحقتها, وأخرجت ما في باطنها من أثاثٍ ومتاع.. شرق ذاك البيت جاء إلى غرب الآخر، وشمال المدرسة وصلت إلى جنوب المسجد.صغار القرية وشيوخها يخبروننا بأن صدمة كبيرة انتابتهم عند دخولهم المكان.. هالتهم الصور الصادمة، وأربكتهم لدرجة التيه.على أطلال منزله الذي لا يعرف أوله من آخره وقف عبد الله مصلح يروي ما جرى: "بدأت المدفعية الإسرائيلية باستهداف القرية بعشرات القذائف.. وأخذت ترمي نيرانها بشكل مباشر على البيوت.. القصف الكثيف أجبرنا على مغادرة منازلنا هربا من الموت.. لم نصطحب شيئاً من أمتعتنا.. تكدسنا في مدرستين تتبعان لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الدولية (الأونروا).. وبعد أن انتهت الحرب جئنا إلى هنا.. أُصبنا بذهول.. الشيخ يبكي والطفل يصرخ .. لاشيء.. لااااا شيء تبقى لنا".عبد الله الذي تعلو ثيابه طبقات الغُبار الأسود وتراكم الأيام السابقة تابع بألم: "في القرية 200 بيت تم سحقهم جميعا بالدبابات.. فقط 5 منازل بقيت واقفة؛ ولكنها لن تكون صالحة للسكن فهي آيلة للسقوط في أية لحظة". "سنزرع مهما فعلوا" القرية المشهورة بأراضيها الزراعية الممتدة ستحتاج إلى وقت كبير لتستوعب حجم كارثة فقدانها لنخيل فارع طويل كان يُزين طرقاتها، ولحقول واسعة خضراء مزروعة بالزيتون والبرتقال والليمون اختفت عن خارطة القرية، ووحدها ظلّت شجيرات بعدد أصابع اليد الواحدة شاهدة على خرابٍ مرّ على جسدّها.يُمسك بيده فأسا يبحث به وسط التربة المجرفة عن شتلة زيتون لم تصلها الدبابات ليضعها جانباً بالقرب من شجرات صغيرة جاء بها ليزرعها مرة أخرى... وفيما ينشغل بمهمته يرتفع صوت فايز سليم بحزن: "لم أتخيل يوما أنني سأشاهد كل هذا الدمار".. يُشير بيده المملوءة بالتراب الغاضب: "انظروا حولكم.. دباباتهم كانت تتعمد أن تُجرف الأرض أكثر من مرة".ورغم فقده لعشرات الدونمات المُشجرة بدا فايز مُصرا على أن يبحث عن الحياة من قلب الموت، قائلا بثقة: "سنزرعها من جديد... سيعود اللون الأخضر مهما فعلوا". انتقاااااام "أحمد مصالحة" طاف على جُحر الديك وبدا كمرشد سياحي يُقارن بين " قبل" و"بعد".. يتوقف أمام خروف اخترقت جسده قذيفة.. يُخبرنا أن مزارع المواشي أبيدت بالكامل.. جحر الديك شطبت عن خارطة غزة".. أقاطعه لأسأله عن سبب تسمية القرية بهذا الاسم.. يهز كتفه ويُجيب ضاحكا: "لا أدري.. المهم أن إسرائيل اغتالت الديك وحرقت ريشه وأكلته حتى عُرفه".تحدث عن أراضِ زراعية كانت هنا وصارت أثرا بعد عين, يأخذنا إلى بقايا قنابل الفسفور ولصغار تركوا المدرسة "ملجأهم المؤقت"، وجاءوا ليبحثوا عن بقايا حلم.رانية البداوي طفلة رسمت الحرب حول عيونها خطوطا حزينة, لم يكن يعينها كثيرا أن ترش وجهها بالماء فتغسل ما علّق به من دخان.. ولم تكترث لثيابها المتسخة والطويلة الأكمام.. شيءٌ واحد كان يؤرق صاحبة السبع سنوات.. أن تعثر من بين أنقاض منزلها على ذكرى تحتضنها."جمعة البحابصة" في العقد الثامن من عمره والذي انشغل في نصب خيمة على أنقاض منزله قال بصوتٍ مخنوق: "القرية تحولت من أرضٍ خضراء إلى خلاء.. لا منزل ولا مسجد ولا مدرسة.. حتى آبار المياه فجروها.. ودفنوا الشجر بعدما اقتلعوه".ويؤكد بحسب خبرته ومعرفته بالقرية أن نسبة ما لحق بها من دمار تجاوزت التسعين في المائة, وأن الخراب نال جميع المزارع والطرقات والبنية التحتية.تدمير القرية ودفن معالمها تحت الأرض وإعدام لونها وتضاريسها والتفنن بذبح دوابها مشاهد لا يرى الشاب أمجد شاويش وصفاً يليق بها سوى: "انتقااااااام"، ويُضيف وهو يُحاول أن يجتاز ممرا احتوى على عشرات الحفر: "كان بإمكانهم قصفها وتدميرها وتركها على حالها.. لكن أن يتم إبادتها بكل شراسة، ولا نتعرف نحن سكانها وأهلها عليها فهذا يعني أنهم جاءوا للانتقام منا ومن أرضنا".