كشف القيادي بحزب المؤتمر الوطني الحاكم وعضوالمجلس الوطني بالسودان "قطب المهدي" في حوار خص به "الأمة العربية" أثناء تواجده بالجزائر، لخطورة الوضع الذي يعانيه السودان في ظل المؤامرات الخارجية من تأهب إسرائيل بعد إجراء الاستفتاء لوضع قدمها علنيا في جنوب السودان، والدور الأمريكي الذي يتطلع لاستغلال الذهب الأسود في المنطقة، من خلال مواصلة حملاته التنصيرية لضرب الهوية الإسلامية، إلى جانب ذلك تطرق "المهدي" للوضع الثقافي بالسودان وموقف المثقفين في الشمال والدعاة إزاء الاستفتاء المقبل، وكذا السبيل من أجل وحدة السودان، وغيرها من النقاط التي ستكتشفونها في ثنايا الحوار. السياسي"قطب المهدي": في تقديري، ما يمر به السودان اليوم هو جزء من الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، التي كانت تعمل للوصول إلى أهدافها منذ أكثر من خمسين عاما تقريبا، أي من أيام الإحتلال الإنجليزي للسودان، مع فرض قانون المناطق المقفولة الذي تم بموجبه عزل الجنوب عن الشمال إداريا وثقافيا، كما أريد له أن يتطور كدولة إفريقية لاتنتمي للعروبة ولا للإسلام وتكون متصلة بالغرب الاستعماري في ذلك الوقت. بعد الاستقلال تم تحريض بعض النخب الجنوبية على التمرد، وبدأت المطالبة بالنظام الفيدرالي ثم بعدها بالنظام الانفصالي، واستمرت الحرب فترة طويلة جدا تهدأ وتستأنف، إلى أن تدخلت إسرائيل بشكل كبير في الأزمة، كونها تخشى من أن يصبح السودان دولة قوية جدا في إفريقيا، ويكون الداعم للقضية الفلسطينية، أوبالأحرى هي تعتبره امتدادا للوجود العربي الإسلامي ويحتل موقعا إستراتيجيا وثروات هائلة، وهذا ما قد يهدد مصالحها. هذا صحيح، فالحرب خلفت أثارا سيئة جدا، من بينها كما ذكرت الاحتكام إلى البنذقية ومفاوضات نيفاشا التي استغلها الجنوبيين ومن ورائهم لإيصال الوضع في جنوب السودان إلى ما هو عليه اليوم، لأن فكرة المفاوضات بالأساس كان هدفها إيقاف الحرب وتعزيز السلام والوحدة الطوعية، من خلال إعطاء مزايا للجنوبيين أكثر مما يجب، كسحب الجيش السوداني من الجنوب تماما وتكوين جيش خاص، وإعطاء حق تقرير المصير من غير أية ضمانات، ظنا أن ذلك سيؤدي للوحدة، إلا أن الذي حدث بعد ذلك تنصل الحركة الشعبية من الالتزام بالوحدة واختيارها للإنفصال،وبالتالي تم دعم الجيش في الجنوب من طرف إسرائيل وأمريكا، ووضعت عملية الاستفتاء كلها في يد المتمردين الذين أصبحوا في حكومة الجنوب، وهذا أدى إلى دعم الموقف الإنفصالي إلى حد كبير. مؤكد بعد الإنفصال سيكون لإسرائيل وجود عسكري وسياسي علني وكبير في جنوب السودان، مثلما كان قبل حرب 73، خاصة وأنها دعمت حرب الانفصال بالسلاح وبكل الإمكانيات، وهذا بالطبع أمر خطير لأنه ممكن أن يهدد أمن السودان ومصر، كما أنه سيدفع الجنوبيين لأن يستمروا في العداوة للشماليين، ومن ثم فالانفصال ليس هو نهاية المشكلة، لأن أمريكا هي الأخرى تبحث عن موقع لنقل القيادة الإفريقية من أوروبا إلى إفريقيا،كما أنها حريصة على إنشاء دولة مسيحية عدائية جدا تحارب الإسلام في إفريقيا، وهذه أوضاع مقلقة بالنسبة للمثقفين في الشمال الذين سيعملون على إبقاء العلاقات جيدة بين الشمال والجنوب حتى ولوحدث الإنفصال، لأن هناك ترابط وثيق من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في الوقت ذاته يتحسبون لوجود أجنبيي له مخططات تستهدف الشمال السوداني. على العموم يشهد العمل الثقافي من جانب الشمال السوداني بعض الوهن، بحيث لم يستطع أن يشكل الرابط الوثيق مع الجنوب الذي ارتبط بالثقافة الغربية، هذه الأخيرة وللأسف الأكثر أثرا في السودان. قد يكون ذلك، ولكن بالدرجة الأولى الأمر يعود إلى النظام التعليمي الذي لم يكن نظاما قوميا منذ فرض المناطق المقفولة، أين سلم الاستعمار الإنجليزي التعليم وكل الخدمات الاجتماعية للإرساليات التبشيرية الغربية، وبالتالي أصبح منهج التعليم الغربي هو المطبق في الجنوب بدل القومي، ما خلق هذا الشرخ الكبير بين النخب المثقفة، لكن عامة الجنوبيين يتفاعلون مع الشماليين بشكل جيد ويتأثرون بهم ويتحدثون اللغة العربية، إلا أن القيادة السياسية أصبحت بالنسبة للنخب تلك التي تخرجت من مدارس الاستعمار والإرساليات التبشيرية على وجه الخصوص. مع الأسف كل آليات الاستفتاء في يد حكومة المتمردين بالجنوب، وبالتالي هم لديهم السلطة الكاملة لترهيب المواطنين ومنع الوحدويين من التسيير، وتهديد الناخبين أنفسهم، وتزوير الانتخابات كما حدث في الانتخابات الماضية، وهم مصممين على فصل الجنوب بأي حال حتى لو لم ينجحوا في الاستفتاء، وهذا ما ينوون الإعلان عنه من داخل البرلمان. من جهتهم، يرى مثقفو الشمال أن الانفصال ليس نهاية العالم، وهم يؤمنون بشيئين أن مصير السودان قد يتخلص من عبء كبير جدا عطل عملية التنمية خلال فترة الحرب أو الاستقلال، كون الجنوب لم يكن يساهم في الدخل القومي إلا مؤخرا، حينما استخرجت الحكومة النفط في جنوب السودان، وهذا سيحقق قدرا من الاستقرار بالنسبة للشمال ويدفع بتنمية البلد ويصبح البلد أكثر تجانسا، لكنهم بالمقابل ينظرون إلى الخسارة الكبيرة بالنسبة للعروبة والإسلام التي كانت تمتد حتى وسط إفريقيا، ويشعرون بالقلق على مصير المسلمين الجنوبيين وعلى الروابط العربية الإفريقية، لأن الدولة الجديدة إذا قامت ستكون هناك سيطرة مع وجود إسرائيلي استعماري مؤثر خاصة من جانب اليمين الأصولي. الإسلام قديم جدا في السودان، وكان في فترة من الفترات هو الغالب في الجنوب، ولكن الاستعمار الإنجليزي حاول طمس الثقافة الإسلامية والعربية وعزل الجنوب عن الشمال، فتشكلت الخريطة الدينية من 60 بالمائة وثنيين و19 بالمائة مسلمين، وطوائف دينية مختلفة، هاته الفئة المسلمة تتلخص مشكلتها في التعليم الضعيف والوضع الاجتماعي المتخلف، ماجعل المسيحيين أكثر تعليما واستطاعوا تشكيل القيادة الفكرية والسياسية في جنوب السودان، وكذا تكوين ارتباطات خارجية قوية جدا سواء في دول الجوار أوفي أوروبا وأمريكا وإسرائيل. ومهما يكن نحن نؤمن بأن الدعوة الإسلامية رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها هي آخذة في الانتشار بالقوة الذاتية، حتى ولو لم يكن هناك دعم مادي كبير، فالناس سيظلون في الجنوب يدخلون في الإسلام بين الفينة والأخرى. أما في منطقة الشمال، فيمكننا رد معظم المشاكل التي يتخبط فيها لوجود حكومة تؤمن بهوية الأمة السودانية كأمة مسلمة وتحاول تطبيق تعاليم الإسلام سواء في الدولة أو المجتمع، على خلاف كثير من حكومات العالم الإسلامي، وهذا الذي أزعج الدول الاستعمارية، وإسرائيل على وجه الخصوص التي لاتتواني عن دعم التخريب، لكن والحمد لله هذا لم يفتك بعزيمة السودانيين وظلوا متمسكين بدينهم وبعروبتهم. الدعاة في الأول وقفوا مع الاتفاقية باعتبارها ستحقق السلام المنشود بين الشمال والجنوب، والذي بفضله ستنتشر الدعوة الإسلامية على أوسع نطاق، لأن العدو في جو الحرب والعداء لايتقبل الدعوة، ومن ثم كانوا حريصين على السلام وتطبيع العلاقة بحيث يتيح الفرصة للتواصل الأخوي من غير مشاعر عدائية، لكن الأمور لم تسر بالشكل الذي توقعوه، ومن ثم فهم سيواجهون المتاعب لأن الانفصاليين تحركهم مشاعر عدائية للإسلام. هذا صحيح، هناك نشاط تبشيري كبير جدا، خاصة من طرف المبشرين الأمريكيين والبريطانيين في جنوب السودان، وغيرهم من الكنائس الغربية التي تسعى لتنصير الجنوب بالكامل، لكن بالمقابل أقول أن تجارب تاريخنا الإسلامي تؤكد أن مثل هذه الأوضاع تقوي الناس بالتمسك بعقيدتهم، وهذا لمسناه في فترة سيطرة الحركة الشعبية على حكومة الجنوب، إذ أن أعدادا كبيرة جدا حتى من المسحيين اعتنقوا الإسلام. لقد عرفت اللغة العربية في فترة الاستقرار تقدما كبيرا في الجنوب، ذلك أن القبائل في الجنوب بالرغم من أنهم يتحدثون 35 لغة، إلا أن لاخيار لهم في التواصل مع بعضهم إلا باللغة العربية، فهي اللغة المشتركة بين الشعب السوداني، وبخصوص الانفصاليين كما قلت لك تحركهم مشاعر عدائية وسيحاولون التضييق لا محالة على اللغة العربية. هذا طريق طويل جدا، حاليا الحكومة تحاول قدر الإمكان الحفاظ على العلاقات القائمة، لأن الجنوب مرتبط إرتباطا قويا بالبنية الاقتصادية للشمال، حتى في عز الحروب الأهلية والانشقاقات فهو يحتاج إلى التعاون مع الشمال، ومن هذا المنطلق أعتقد أن الوحدة متحققة مع وجود الإسلام في الجنوب وانتشار اللغة العربية والتعاون الاقتصادي والتجاري الوثيق، بالإضافة إلى التواصل الاجتماعي المستمر، فنحن تأكدنا من خلال اتصالاتنا مع الجنوبيين أنهم رافضون للانفصال، المفروض عليهم بالتزوير وبالإرهاب وبالدعاية الكاذبة، وعليه الوحدة ماتزال لها فرصة كبيرة جدا حتى بعد الانفصال. في الوقت الراهن تستمر الدولة في تنفيذ مشاريعها الاتحادية في جنوب السودان، وفي الإشراف التنموي إذ ستعقد بعد قرار الاستفتاء دورة مدرسية في الولاياتالجنوبية يشارك فيها طلاب الشمال والجنوب، هناك أيضا مشاريع مستمرة في تهيئة الطرق وإنتاج النفط، إلى جانب المحادثات التي تجري في قضايا ما بعد الاستفتاء، وتشمل قضايا الموارد الطبيعية وكيفية استغلالها بشكل مشترك، التعاون الأمني، قضايا المواطنة والجنسية غير المزدوجة، وكذا التباحث في كيفية ضمان حقوق المواطنين الشماليين المتواجدين في الجنوب والجنوبيين المستقرين في الشمال. مما تجدر الإشارة إليه، أن الفرصة كانت كافية بعد الاستقلال لدعم الحكومات المتعاقبة على بناء الوحدة الوطنية السودانية وخلق تواصل قوي جدا بين أطراف القطر وتوحيد الثقافة القومية ولكن هذا لم يحدث، في خضم استمرار سياسة المستعمر في زرع الفرقة بين الشمال والجنوب، وتصاعد المؤامرات الخارجية ضد الحكومة السودانية والدعم القوي للحركات المتمردة،كل هذا ساهم في عدم تحقيق قدر من التواصل بين أطراف القطر. وطبعا الذين يشجعون الجنوب على الانفصال يعدونهم أنهم سيدعمونهم، ولكن التجارب دلت على أن الدعوة كاذبة، هم يريدون تقسيم السودان فقط، كما حدث في إتفاقية" نيفاشا" أين كان من بين بنودها تقديم دعم ب5 مليارات دولار، ولكن لم يصل منها شيء، وهذا ماتم في" أوسلو" وغيرها من الإتفاقيات. في الحقيقة، وضع الجنوب صعب تنميته إلا بالأموال الطائلة، فهو بلد مستنقعات وأدغال وليس له بنية تحتية، والدول التي تدعي الدعم فلن تستطيع حمل هذا العبء في ظل الأزمة المالية الدولية الحالية، ولكن دول الجوار كأوغندا وكينيا تريد من هذه الدولة الجديدة الضعيفة أن تكون تحت هيمنتها سياسيا واقتصاديا، أما إسرائيل فهي مستعدة للتعاون بالسلاح فقط حتى يخلقوا المتاعب للشمال، الأمريكان الأصوليين المسيحيين هم كذلك يريدون إنشاء دولة مسيحية إفريقية، والبحث عن بسط هيمنتها العسكرية لاستغلال النفط الإفريقي في المنطقة كلها، ومنع الدول الأخرى مثل الصين وروسيا وفرنسا من الانفراد ببترول القارة الإفريقية، ليكون بذلك بديلا لبترول الشرق الأوسط، وهذه مجملا الدول التي لها مصلحة في الانفصال. أعتقد أن فترة التيه والسبات قد انتهت في المنطقة العربية والإفريقية على حد سواء، وهناك وعي جيد جدا لاسيما عند المثقفين، الذين يرون أن هذه الدول بما فيها السودان لم تعد لها ثقة لا بالمؤسسات الدولية المالية ولا بالمنظمات الأممية ولا بالدول الغربية، فهم ينظرون بشكل جاد إلى كيفية الاعتماد على الذات، ومواجهة الاستغلال الخارجي الامبريالي، ومن ثم أنا مطمئن للمستقبل.