السجناء يتكلمون أم السجان؟ أصدرت منشورات جامعة إييوا الأمريكية للصحافة و تحت إشراف أحد المحاميين الأمريكيين ممن تكفلوا بالمرافعة لصالح بعض سجناء غوانتنامو المدعو مارك فلكوف ما سمي جزافاً "أشعار من غوانتنامو – السجناء يتكلمون". ولقد سمحت لي قراءتي للنسخة الإنجليزية أن أقف على ما يمكن تسميته بالتلفيق الشعري المشين، لأن ما أُطْلِقَ عليه نعت الأشعار ليس في حقيقة الأمر سوى تجاوز أدبي وأخلاقي في حق فن الشعر من حيث إن ما تضمنته "المجموعة المشتركة" المشكلة من اثنين وعشرين نصا اشترك في كتابتها سبعة عشر سجينا لا يمتون بصلة لعالم الكتابة الشعرية التي تقتضي التمكن من أدوات التعبير الأدبي من استخدام للأخيلة و للصور المعتمدة على البلاغة اللغوية العالية. وأمام تلك النصوص الباردة التي تعرضت لمقص ومبضع الرقابة الأمريكية، فإن القارئ الحصيف سيشعر إزاء تلك النصوص التي سميت جورا وعدوانا شعرا بغياب مسألة أساسية ألا وهي الصدق الفني الذي يعطي لأية تجربة مداها الإنساني ومن ثمة يطبعها بالشعرية. و غياب هذا الصدق يعود إلى تلاعب الإدارة الأمريكية ممثلة في البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأمريكية (السي.أي.إي) بتلك الكتابة التي لم يتركوا حرفا واحدا فيها يفلت من التمحيص الدقيق والرقابة. لقد قلّبت أيادي السجّان الأمريكي على شتى الأوجه والتآويل مفردات النصوص خشية أن يتراءى من خلالها ما يمكن أن يسيء "للديمقراطية الأمريكية" التي تصبو إلى تصديرها إلى العالم وفق نظرتها المهيمنة و أسلوبها العنيف. وكنتيجة لهذا التلاعب والتضليل جاءت تلك النصوص شبيهة بالتهويمات التي لا بداية لها ولا مغزى معين تريد الوصول إليه. لقد اعتبر بعض المتابعين للشأن الثقافي في أمريكا أن إصدار هذا الكتاب هو في حدّ ذاته جريمة أخرى تضاف في السجل الطويل للجرائم المرتكبة في حق الإنسانية والشعر معا، لأن رفع أشخاص كان هدفهم - بحق أو بغيره- القتل والتخطيط لتدمير الإنسان المختلف عنهم، إلى مصاف الشعراء هو تجاوز أخلاقي خطير. فلا يمكن أن ننسى أن هؤلاء النزلاء في ذاك السجن الرهيب هم أناس يحملون في عقولهم أيديولوجية بن لادن وأيمن الظواهري. لقد تصور خطأ أصحاب مشروع العار هذا بأنهم سيصادفون ضمن هؤلاء "الشعراء المساجين" على كتاب موهوبين وأصحاب أقلام مجنحة، إلا أنهم لم يوفقوا في تجارتهم فنشروا كلاما سمجا ومغشوشا ومحرفا أرادت من خلاله أمريكا أن تضحك على مواطنيها وعلى الجميع فنعتته بالشعر وما هو كذلك. فما قيل بأنه كلام السجناء لم يكن في نهاية الأمر سوى صوت السجّان الأمريكي لأن هؤلاء المساجين كانوا جميعا بلا صوت.