أفضت النتائج شبه الرسمية للمرحلة الأولى من أول انتخابات رئاسية حقيقية تعرفها مصر، منذ القدم وخلال عصرها الحديث عن عدة حقائق ودلالات.الحقيقة الأولى هي أن الشعب المصري أصبح بالفعل سيد قراره فيما يتعلق باختيار مواقع المسئولية في السلطة والحكم، بعد ثلاث جولات تصويتية كبيرة، هي الاستفتاء على تعديل دستور 1971 في مارس من العام الماضي، والانتخابات البرلمانية بمجلسيها، الشعب والشورى، ثم الانتخابات الرئاسية. فقد دخل المواطن لجان التصويت مدركا لقيمة ووزن صوته ومقتنعا بإمكانية إحداثه التغيير.الحقيقة الثانية هي إدراك كل من في موقع المسئولية للحقيقة السابقة، وهو الأمر الذي دفع إلى أن نشهد انتخابات حرة ونزيهة، لم تخل بالطبع من مخالفات عديدة، لكن محصلتها النهائية تؤكد غياب التزوير الممنهج والمتعمد لصالح مرشح على حساب آخر، فضلاً عن غياب العنف الذي كان سمة موازية لانتخابات مل قبل الثورة.الحقيقة الثالثة أن مصر كما كانت على مر العصور هي موضع للتنوع والتعدد الديني والثقافي والسياسي أيضا. ينبع ذلك مما كشفت عنه النتائج شبه الرسمية حيث توزع قرابة 50 بالمائة من حجم الكتلة التصويتية المصرية على خمسة مرشحين أساسيين يمثلون توجهات مختلفة، فلم يزد الفارق بين المرشح محمد مرسي في المركز الأول (بنسبة 25 بالمائة تقريباً) عن المرشح عبد المنعم أبو الفتوح في المركز الرابع (بنسبة 18 بالمائة تقريباً) أكثر ما بين 6 إلى 7 بالمائة. ووجدنا من الأسرة المصرية الواحدة من صوت للدكتور مرسي ومن صوت للفريق شفيق، ومن صوت للسيد جمدين صباحي أو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وغيرهم.الحقيقة الرابعة أن مصر من الاتساع والتنوع والتعقيد بما لا يسمح لقوة سياسة واحدة، أيا تكن، أن تدير وتدبر بمفردها شئون مصر داخلياً وخارجياً في عهد ما بعد ثورة 25 يناير. يدل على ذلك صعوبة توافق القوى المختلفة على تشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد، وتوجه المرشح محمد مرسي، وحزب الحرية والعدالة، إلى البحث عن مخارج توافقية مع القوى المدنية والثورية، أملاً في الوصول لمنصب الرئاسة، وإرسال إشارات جديدة إلى أن جماعة الإخوان لا تسعى إلى احتكار المشهد السياسي المصري.وبالمثل يبدأ الفريق أحمد شفيق في مغازلة القوى المعارضة له وتطمين القوى الثورية أنه لن يعمل ضد مبادئ وأهداف الثورة لأنه يرى الاستقرار عاملا مركزيا للبدء في تحقيق هذه المطالب.الحقيقة الخامسة أن الشعب المصري، وبعد معاناة مع الحكم الفردي الاستبدادي، يتوق إلى المرشح الواضح وإلى إعمال المصارحة والشفافية، بغض الطرف عن التوجهات العامة. يؤكد ذلك أن أصحاب المراكز الثلاث الأولى (مرسي، وشفيق، وصباحي) ربما كانوا الأكثر وضوحاً في رؤيتهم ومواقفهم خلال الحملة الانتخابية على ما تحمله من أوجه تشابه واختلاف؛ فالأول يعبر صراحة عن جماعة لها رؤية محددة لمستقبل مصر، والثاني يعبر صراحةً عن قطاع عريض من الجمهور الذي ينشد الأمن والاستقرار،والثالث يعبر صراحةً عن شريحة كبرى من القوى الثورية والمدنية. أما المرشحان، أبو الفتوح وموسى، فقد حاولا أن يكسبا الجميع ويظهران كأنهما عابران ومعبران عن قوى سياسية واجتماعية عديدة، فلم يظفرا بالنجاح المتوقع، لأن من يحاول إرضاء الجميع سياسيا لن يستطع إرضاءهم بأي حال.الحقيقة السادسة أن النتائج أثبتت أن مصر يتجاذبها الآن ثلاثة تيارات كبرى، أولها تيار الإسلام السياسي بتنوعاته المختلفة، وهو تيار تشتت أصواته بتعدد المرشحين ذوي الخلفية الإسلامية، والذي ربما وجد نفسه أمام مفاضلة بين ثلاثة نماذج "إسلامية" مختلفة؛ ومن هنا انقسم على نفسه، وربما لم يتم الحشد الكامل لدى أنصار التيار الديني باستثناء جماعة الإخوان المسلمين.ويتمثل التيار الثاني في جبهة عريضة اجتمعت على التصويت للفريق شفيق، وهي جبهة متنوعة، تتوزع على الشرائح الاجتماعية الداعمة للأمن والاستقرار، والشرائح الأخرى التي لم تتمكن القوى الثورية من إقناعها وحشدها لمدة عام ونصف، وشريحة سياسية إما صوتت لصالح النظام السابق أو صوتت عقاباً لتيار الإسلام الإسلامي، وشريحة تخشى على مصالحها الاقتصادية، سواءً من رجال الأعمال أو من الموظفين الذين يخشون التغيير المفاجئ والذين تعودوا على الاستقرار. بكلمات أخرى ربما حاز شفيق ربع أصوات الناخبين تقريباً، وهم من يمكن أن يطلق عليهم "النازعون للاستقرار"حتى وإن كانوا مع مبادئ وأهداف الثورة.أما التيار الثالث فهو الأكثر تعبيراً عن كل من القوى المدنية، بشقيها اليساري والليبرالي، والقوى الثورية، وهي جبهة توزعت بين أنصار المرشحين حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح. وترفض هذه القوى بشكل قاطع انتخاب الفريق شفيق الذي يمثل من وجهة نظرهم وجهاً للنظام السابق، ويتشكك عديدون داخلها أيضاً في نيات جماعة الإخوان المسلمين لأنها لم تخلص للثورة بنسبة مائة بالمائة، وفضلت مصالحها الخاصة على عموم مصالح القوى الثورية.ومن الحقائق إلى الدلالات، يلاحظ أن الدلالة الأولى جاءت مخالفة لتوقعات كافة استطلاعات الرأي، وتتعلق بنسبة المشاركة، فلم تزد تلك النسبة عن 50 بالمائة ممن لهم حق التصويت. وربما يعزي ذلك إلى حدة الاستقطاب السياسي الحاد بين أصحاب التيارات الثلاث السابقة، إلى الحد الذي تأكد معه تماماً عدم قدرة أي من المرشحين على حسم النتيجة في الجولة الأولى؛ الأمر الذي دفع قطاعا كبيرا من الكتلة الحرجة، أو المترددة، ربما إلى تفضيل حسم خيارها بعد تقلص عدد المرشحين إلى اثنين فقط. هذا فضلاً عن عدم تصويت نسبة كبيرة ربما لا تقل عن 15 بالمائة من التصويت في مقارها الانتخابية بسبب العامل الجغرافي واضطرارها إلى التنقل من محافظة لاخرى.أما الدلالة الثانية فتتعلق باتجاهات التصويت، ودون الأخذ بتصنيف معياري ثابت، يلاحظ أن شريحة النازعين للاستقرار والميالين لنظرية رجل الدولة بلغت حوالي 36 بالمائة مجموع ما حصل عليه كل من شفيق وموسى، وأن نسبة من صوت لجماعة الإخوان 25 بالمائة أخذاً في الاعتبار أن الإخوان قاموا بأقصى حشد ممكن، وأن هذه النسبة سوف تحصل في جولة الإعادة على أصوات إضافية من أنصار أبو الفتوح تحديدا، وربما من قوى ثورية أخرى إذا تمكنت الجماعة من توفير ضمانات معينة لهذه القوى حتى تنضم إليها. ثم هناك التيار الثوري، والذي حصد أيضا نسبة لا تقل عن 38 بالمائة (مجموع أصوات صباحي وأبو الفتوح)؛ مما يدل على أن شريحة عريضة من الناخبين كانت تفضل مرشحا ثوريا، لا مرشحا إسلاميا خالصا ولا مرشحا عمل مع النظام السابق.الدلالة الثالثة ترتبط بميل شرائح اجتماعية حضرية إلى التصويت لصالح حمدين صباحي، كما حدث في القاهرةوالإسكندرية وبورسعيد على سبيل المثال؛ وربما لا يعود ذلك إلى القناعة التامة بالمشهد السياسي الذي تمخض منذ الثورة بقدر ما يعود إلى رؤية هؤلاء أن صباحي، فضلا عن كونه مرشحا ثوريا، فهو يؤمن بالدولة المدنية، وهو رئيس لن تحدث معه اضظرابات ما بل سيكون الاستقرار لبضعة أشهر مضمونا معه.الدلالة الرابعة أن صباحي قد تمكن من أن يكون منافسا شرساً حتى اللحظات الأخيرة، وذلك بالرغم من عدم تمتعه بماكينة تنظيمية ودعائية ضخمة مثل شفيق ومرسي، وعدم تأطير أنصاره ومؤيديه في شكل تنظيمي متماسك وقوي؛ وهو ما يؤكد ضرورة بناء مؤسسي قوي لأنصار الدولة المدنية في مصر.الدلالة الخامسة هي أن أخطاء القوى المدنية والثورية لم يكن لها سقف محدد، إذ على الرغم من إدراكها حقيقة أن التشرذم وسوء الأداء وضعف تأسيس بنى قاعدية جماهيرية أفقدها الكثير من المكاسب خلال الفترة الماضية، إلا أنها استمرت على تشرذمها بعد أن بإمكانها التوافق بين المرشحين صباحي وأبو الفتوح أن يضمن إعادة أحدهما في الجولة لثانية.الدلالة السادسة تتمثل في التراجع الواضح لحجم الكتلة التصويتية لصالح مرشح جماعة الإخوان المسلمين، من 10 مليون صوت في الانتخابات البرلمانية إلى حوالي 5.5 مليون في الانتخابات الرئاسية. وأخذا في الاعتبار اعتماد المرشح "الإسلامي المستقل" عبد المنعم أبو الفتوح على أصوات حزب الوسط وحزب النور السلفي وبعض القاعدة السلفية الأخرى، إلا أنه قد حصل على حوالي 9.3 مليون صوت، مع أن الداعمين له حصدوا حوالي 8.5 مليون صوت في الانتخابات البرلمانية. ويدل كلا الأمرين على تراجع كبير في شعبية التيار الإسلامي في الشارع المصري. وربما ذهب هذا الخصم من رصيد هذا التيار إلى كل من الفريق شفيق وحمدين صباحي.الدلالة السابعة تختص بالقاعدة الانتخابية التي طالما ارتكزت عليها جماعة الإخوان المسلمين، فعلى عكس المتوقع حل الفريق شفيق في المركز الأول في محافظات مثل المنوفية والشرقية والدقهلية والغربية، وهي مناطق كانت إلى جوار الإسكندرية والسويس مثلا، حاز فيها الإخوان أغلبية في الانتخابات البرلمانية، فيما بقيت فاعلية الإخوان قوية في محافظات أخرى مثل بني سويف والفيوم والوادي الجديد. وبالمثل يلاحظ أن المناطق الساحلية والسياحية مثل الأقصر والسويس ودمياط وجنوب سيناء، إما فاز فيها الفريق شفيق أو صباحي، فيما فاز أبو الفتوح في مطروح.كما تقدم شفيق في المناطق ذات الكتل التصويتية الكبيرة للأقباط، مثل أسيوط والمنيا وبعض مناطق القاهرةوالإسكندرية. ويعكس هذا النمط التصويتي مخاوف بعض الشرائح الخائفة على طبيعة أعمالها وقطاع من المسيحيين من تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي.الدلالة الثامنة تتمثل في المزيد من حدة الاستقطاب السياسي في جولة الإعادة المرتقبة بين المرشيحن شفيق ومرسي، وهي دلالة تتخطى كافة التوقعات وتتجاوز تأثير الإعلام القديم والجديد على الناخب المصري؛ حيث الثنائيات المتناقضة باتت تسيطر من أي وقت على هذا الناخب بين الثورة والاستقرار وبين الديني والمدني.وبين المدني والعسكري وبين رجل الدولة ورجل الجماعة.إن هذه الثنائيات لن يمكن حلها بمجرد معرفة من هو الرئيس القادم (أول رئيس منتخب بعد ثورة 25 جانفي)، فالسيناريوهات عديدة لكن جلها لابد وأن يدور في فلك يتجاوز فكرة الاحتكار السياسي أو العودة للوراء، واليقين بأن مصر متعددة الاتجاهات وحلها يكمن في التعددية السياسية الحقيقية التي تسمح بتداول سلس للسلطة، وبدستور يكفل حقوق المواطنة والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية ويكرس الدولة المدنية.