«النهار» تفتح صفحات من العشرية السوداء في ذكرى المصالحة الوطنية وترصد شهادات من عايشوها المصوّر الصحافي الوافي العربي: «وثّقت العشرية السوداء بالصور.. وكنت أنقل آلة التصوير في كيس القمامة» الشيخ علي عيّة: “كنا نشعر بدنّو الأجل لمجرد هبوب نسمة عابرة” رئيس خلية المساعدة القضائية لتطبيق ميثاق المصالحة مروان عزي ل”النهار”:”انتقلنا من التفكير في الانتقام الى البحث عن العيش بسلام “ “وين كنّا.. وين رانا؟” هي ملخص شهادات قدمها جزائريون من مختلف الشرائح والأعمار، ممن عايشوا سنوات التسعينات وذاقوا ويلات الإرهاب، أو كانوا شهودا على مآسي من اكتووا بنارها. المصور الصحفي الوافي العربي، الإعلامية نائلة بن رحال، الشيخ علي عية، كانوا شهودا على أزمة الجزائر، وعايشوها لحظة بلحظة، فالاول وثقها بالصور، والثانية روتها بالقلم، أما الشيخ الجليل فقد كان أحد من اكتووا بلهبها وذاق مرارة التعذيب والألم، ليجتمع الثلاثة اليوم في شهاداتهم على قاسم مشترك واحد، وهو ان الجزائريين يعيشون الآن في سلام، فلا دموع بعد اليوم، ولا خوف من نسمة عابرة. المصوّر الصحفي الوافي العربي: “وثقت العشرية السوداء بالصور.. وكنت أنقل آلة التصوير في كيس القمامة يعد المصوّر الصحفي الوافي العربي، من المصورين الصحفيين القلائل الذين وثقوا العشرية السوداء بالصور، وعايش ألم فراق صديق مقعد الدراسة، عندما اغتالته أيادي الإرهاب في بداية التسعينات على مرأى منه بجسر قسنطينة بالعاصمة. يقول المصور العربي أن ذاكرته لم تعد تستوعب ذلك الكمّ الهائل من الصّور الرهيبة التي وثقت المأساة الوطنية، رغم حداثة سنه آنذاك، مشيرا إلى أنه لم يكن يتجاوز ال 22 عشرين ربيعا، عندما دخل مجال الإعلام، ورغم عمله الدائم في الملاعب، إلا أن عدسة كاميرته كانت كثيرا ما تقع في حالة تسلل، لترصد كل صورة من صورة همجية الإرهاب رغم بشاعتها. ويقول المصور الوافي “رائحة الدم حفظت في ذاكرتي، كنت امشي متخفيا، انتظر ملك الموت عند بزوغ فجر نهار جديد، أو انطفاء شمعة يوم آخر، ولكن شاءت الأقدار، ان تبصر عيني نعمة العيش في سلام، نعم نعمة، لأنني كنت عاجزا عن البقاء في مكان واحد، وتحولت إلى مصور هارب ينقل آلة التصوير في كيس القمامة، خوفا من “محشوشة” مجرم غادر أو خنجر إرهابي في حاجز مزيف”. وأضاف محدثنا: “أصبحت إنسانا عصبيا، من هول ما صورته ورصدته ووثّقته من صور ضحايا كانت دمائهم تصل إلى الكعبين، وما تزال صورة ذلك الشرطي الذي أضرمت فيه النار في مخيلتي وكأنها وقعت بالأمس فقط، وصورة جاري الذي مات غدرا أيضا.. لقد هربت إلى درجة سئمت فيها الترقب من وجه شيء إسمه إرهاب.” يصمت العربي برهة ويقول: “ما زلت مصدوما حينما أتذكر مجرزة سيدي الكبير بالبليدة، والبالوعات المسدودة، في أول ليلة لم أستطع النوم، ولكن الآن مضى ما مضى، وأصبحت أسير بشكل عادي، وأفصح عن مهنتي دون توجس.. أتذكر خطاب الرئيس بوتفليقة حول المصالحة، لم يكن خطابا سياسيا، بل خطابا منبعثا من القلب لاستعادة ابناء الجزائر، والنتيجة كما يلمسها الجميع اليوم، انا أعيش في سلام، كانت مهنتي نقمة، ولكن الآن نعمة، لأنني أستطيع التنقل أينما أشاء ووقتما أشاء دون خوف”. الشيخ علي عيّة: “كنا نشعر بدنّو الأجل لمجرد هبوب نسمة عابرة” بنبرة ألم امتزجت بكثير من الامل، روى الإمام والداعية الشيخ علي عية، ل”النهار”، قصة معاناته من ويلات الإرهاب، وكيف كانت مجرد هبة نسيم عابرة، تنبؤه بدنو الأجل، إلا أنه بموجب قانون الرحمة والمصالحة الوطنية، التمس الشيخ معنى العيش بسلام، وأن الصلح خير، والعفو عند المقدرة من شيم الرجال. ومن خلال حديثه إلى “النهار”، سرد الشيخ معاناته من ويلات العشرية السوداء، وكيف أنه بات اليوم ينعم بنعمة الامن والأمان التي بات الجزائريون يعيشونها، دون غيرها من الدول، التي أصبح تحسدها على الاستقرار الذي ناضلت كثيرا من أجله. “لا صلوات تقام في المساجد ولا آذان يرفع على المسامع” وراح الشيخ عية، يسترسل في روايته لمعاناته مع الإرهاب قائلا: “كانت المساجد تغلق بالشهور، ولا أحد يتجرأ على دخولها، أما في شهر رمضان، فلم يكن هناك شيء اسمه صلاة تراويح، حتى شوربة الإفطار كانت شوربة دماء، أتذكر كيف مات 120 إماما، بعد أن ذبحوا كالخرفان لأنهم أبوا إلا أن تعلوا كلمة الحق.. لا وبل كل من كانت له لحية، يهمز ويغمز عليه، ولكن الامور بدأت بالتدريج في الانفراج”. “صلوات تقام في المساجد وأفراح إلى الصباح” “وبعد سنوات من القتل والتعذيب والتغرير بالشباب، انقضى الخوف، والأبواب الحديدية التي كانت تطبع جل بيوت الجزائريين لحمايتهم من السكين، ما عادت تغلق كما كانت، ليتجسد العيش بسلام، فجزائر 1998، ليست جزائر 2018، لقد أصبح الجزائري يستيقظ في ساعات مبكرة من اجل سحب امواله من محطات البريد، ويخرج مع أفراد عائلته للتجول ليلا، وحتى السفر.” وأضاف:”لا نوافذ موصدة بعد الآن، ويستطيع من كان حتى النوم في الشارع، لأن الإرهاب اصبح فعلا مبنيا للماضي، والرعب لا محل له في قلب الجزائريين، الذي أصبح بإمكانهم حتى اقتناء الاكل في ساعات متاخرة، لأن المحلات أصبحت تعمل إلى ما بعد منتصف الليل، وعند الفجر، تسمع صوت المؤذن يدعو لصلاة الفجر، بعد أن صمتت المئذنات لسنوات طويلة، وبعد أن كانت المساجد مهجورة، كما أن الأئمة اصبحوا يلقون خطب الجمعة”. وما أصبح يميز جزائر اليوم، هو أن الاطفال يتمدرسون، والأفراح والولائم تقام ليلا نهارا، يحضرها أفراد العائلة والأصدقاء من حماة الوطن من شرطة وعسكر، بعد أن كان كل شخص تسول له نفسه التكلم معهم، أو حتى شرب كوب قهوة، يتهم بالخيانة، ويقتل شر قتلة . “أصبحنا في نعمة نحسد عليها من طرف الجيران” وذكر الشيخ عية، أن نعمة الأمن التي أصبحت تتمتع بها الجزائر، دون غيرها من الدول، أصبحت تحسد عليها، با وبل تحولت تجربة الجزائر في مكافحة الإرهاب مرجعا للعديد من الدول، وكيف تمكنت الجزائر من استرجاع أبنائها المغرر بهم، والعفو عنهم، والدين بفضل المصالحة الوطنية، غادروا الجبال وأسسوا أسرا. وقال عية:” بعض النواعق من الخارج، تريد تسويد صورة الجزائر ولكنها ستبوء بالفشل، لأن الجزائريين ذاقوا طعم التعايش بسلام مع أبنائهم المغرر بهم، وأصبحوا الآن إخوانا، لأن المصالحة وكل من تسبب فيها بكلمة فيها مكنتنا من العيش بسلام، أنا أرى الآن الشباب التائبين، يبتسمون ونصف دينهم يقيمون، وأنا فرح ومسرور لما آلت بلادي، سررت بالعفو والتسامح ولولاهما ما كنا سنصل إلى ما وصلنا اليه الآن.” الإعلامية نائلة بن رحال احد الناجين من مجزرة بن طلحة ل”النهار”:عشنا الدم.. الدمار والموت.. والمصالحة جعلتنا نعيش في سلام”! تكشف الصحافية المعروفة بجريدة “لوريزون” الصادرة بالفرنسية، نائلة بن رحال وهي أحد الشهود العيان عن سنوات العشرية السدواء، بحكم أنها نجت بأعجوبة من مجزرة بن طلحة سنة 1997، في هذا الحوار الذي خصت به”النهار” عن تجربتها كإعلامية في معايشة نقطة التحول الكبيرة في تاريخ الجزائر، والتي أتى بها ميثاق السلم والمصالحة الوطنية بعد سنوات من الدم والدمار، حيث رفع الجزائريون آنذاك شعار”العيش بسلام”. 1 نائلة بن رحال صحافية عايشت حقبة العشرية السوداء، هل يمكن أن تروي لنا كيف كان الإعلاميون يمارسون مهامهم في ظل التهديدات الإرهابية؟ أعتقد أن الأزمة الأمنية لم تستثن أحدا أو مواطنا بغض النظر عن مهنته، لكن الصحفيين كانوا أكثر استهدافا من طرف الجماعات الإرهابية بل أكثر من أفراد مختلف مصالح الأمن، لأن اغتيالهم كان يعني إسكات صوت الحقيقة وطمس الواقع وتعرية حقيقة وهمجية الجماعات الإرهابية. كثير من الصحفيين تنقلوا للإقامة في مكان آمن وفرته السلطات وأقصد هنا، فندق المنار بسيدي فرج بالعاصمة وظل آخرون ملتزمين بمكاتبهم في دار الصحافة وهناك من كان يغير مكان نومه وليس إقامته …الصحفي خلال العشرية التي لا لون لها إلا ذلك الممزوج بالدم والموت، كان متشردا ومطاردا، ينتحل صفات متعددة فقط للاستمرار في الحياة خارج إطارها الطبيعي . إذا كان المواطن يتوقع الموت في انفجار سيارة مفخخة أو مجزرة أو اشتباك، الصحفي كان ينتظر الموت كل لحظة وفي كل مكان.. الصحفي كان شاهدا ميدانيا . 2- كيف عاشت نائلة بن رحال تلك الفترة أي تجربتك الشخصية؟ التحقت بالصحافة في بداية سنوات الجنون الدامي، حين كانت الدماء تلطخ الشوارع والطرقات والجدران، وكان الصوت للقنابل والسيارات المفخخة، ممكن أتحدث لك عن مرحلتين.. أنا عشت المرحلة الأولى، كنت صحفية مبتدئة وأنا لا أزال طالبة جامعية وأقيم في حي شعبي. كانت طبيعة عملي سرّ حقيقي، حتى على أقرب الناس لي، لم أكن أحمل أبدا بطاقة مهنية أو أمر بمهمة لاحقا، قيل لي أن استمراري في ممارسة الصحافة في تلك الفترة، نوع من الانتحار، بالعكس كان نوع من المقاومة والصمود ، لم أكن أبحث عن الشهرة أو البروز بقدر ما كنت أسعى جاهدة إلى تنوير الرأي العام بالحقيقة خاصة في ظل محاولات الإعلام الغربي، تحريف الحقائق. وأما المرحلة الثانية، فكانت خلال مرحلة الاعتداءات الانتحارية، حيث تعرضت أنا والزميل أنيس رحماني، إلى تهديد علني بالتصفية من طرف التنظيم الإرهابي المسمى “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”. 3- كانت المصالحة الوطنية نقطة تحول في تاريخ الجزائر بعد التسعينات كيف لمست تجاوب الشعب من منبرك كصحافية عاشت الدم والدمار؟ أكيد أن المصالحة الوطنية كانت نقطة تحول كبيرة، عندما أعلن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ،عن مشروع المصالحة الوطنية في خطابات أمام الشعب في عدة ولايات، كنت حاضرة، كان هناك المقاوم وضحية الإرهاب وابن الإرهابي ووالدة المفقود وزوجة المختطف ومختلف شرائح المجتمع ، كنت أنقل شهاداتهم وكانت كلها تحت عنوان “نريد أن نعيش في سلام” . 4- اليوم نائلة بن رحال تعيش في جزائر ما بعد المصالحة ماذا تغيّر؟ ماذا تغير ؟ أعتقد أن أمورا ايجابية كثيرا وقعت قد يكون أهمها تجاوزنا لأحقادنا وضغائننا ومآسينا وآلامنا وتقبلنا للآخر، فقط من أجل العيش بسلام وأمن واستقرار، بعد تجربة مريرة جدا، اليوم لدينا الحق في الحياة والأمل في جزائر ما بعد المصالحة الوطنية التي هي جزائر الأجيال القادمة. المصالحة الوطنية تجربة تحولت إلى مرجع لعدة دول في العالم، لتحقيق الأمن والتعايش، ولنا أن نفخر بذلك بفضل المصالحة، أنا والعديد من الصحفيين تمكنا من إنجاز عمل ميداني، تحقيقات وربورتاجات دون أدنى خوف … عن تجربتي. أتنقل برا إلى مناطق بعيدة وأصبحت أيضا أنقل الوجه الجميل للجزائر وشهادات مواطنين في مناطق كانت معاقل الجماعات الإرهابية، يتوقون إلى التنمية بعد استتباب الأمن وأعتقد أن الصحفي شاهد أساسي على هذا التحول الذي لا ينكره إلا جاحد. رئيس خلية المساعدة القضائية لتطبيق ميثاق المصالحة مروان عزي ل”النهار”:”انتقلنا من التفكير في الانتقام الى البحث عن العيش بسلام “ قال المحامي عزي مروان رئيس خلية المساعدة القضائية لتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية سابقا، إن الجزائريون ومن خلال ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي أقروه يوم 29 سبتمبر 2005، في استفتاء وطني، اختاروا العيش في سلام معا بعيدا عن تصفية الحسابات والثأر والإنتقام، والعمل جميعا لأجل بناء مستقبل أفضل. وأكد عزي في اتصال مع “النهار” بأن كل الجزائريين خلال السنوات الأولى من الألفية، كان منصبا على كيفية تحقيق الأمن والإستقرار بعد عشرية دامية لم يكونوا يفكرون في كيفية القصاص من الآخر، ولهذا جاءت فكرة المصالحة الوطنية تجسيدا لطموحات وحلم كل جزائري يسعى وراء الخلاص من سنوات الجمر بكل مخلفاتها. واعترف المحامي عزي مروان بأن كل شهادات المغرر بهم الذيم قصدوا الخلية وكذا الضحايا، كان لسان حالهم هو عودة الإستقرار والأمن، وأن تضحيات ضحايا الإرهاب حقيقة كانت كبيرة وقرارهم الصفح عن التائبين في استفتاء 29 سبتمبر 2005 كان لأجل الجزائر، ومستقبل أبنائهم الذي قالوا بكلمة واحدة “لانريدهم أن يعيشوا كما عشنا”. قياديون في “الفيس المنحل” يتحدثون ل”النهار” سحنوني: “المصالحة ساهمت في توبة العديد من عناصر الجيا” قال القيادي في الجبهة الإسلامية للإنقاذ “الفيس” المنحل، الهاشمي سحنوني، أن المصالحة الوطنية التي جاء بها رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، كانت إيجابية للوطن، ومكنت من توبة العديد من الإرهابيين الذين كانوا في صفوف التنظيم الارهابي “الجيا”. وأكد سحنوني في اتصال مع “النهار”، أن الجزائر مرت على حقبة صعبة، كانت الجزائر خلالها بحاجة لمن ينقذها، الى أن جاءت المصالحة الوطنية التي هندسها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لتجمع الأطراف وتشفي الجراح. كما أن نتائج المصالحة الوطنية وبعد أكثر من 12 سنة إيجابية، وملموسة على أرض الواقع، من خلال إستباب الأمن والاستقرار والتعايش معا في سلام، وأن الأجيال القادمة ستستفيد منها. من جهة أخرى قال القيادي في الجبهة الإسلامية للإنقاذ “الفيس” المنحل، كمال قمازي، في اتصال مع “النهار”، أن المصالحة الوطنية كانت الحل للأزمة التي كاتنت تمر بها البلاد، وأن المصالحة الوطنية مكنته على غرار باقي الجزائريين من العيش في كنف السلام والاستقرار.