محمد، سعدية ومهاني، هم ثلاثة إخوة أصابهم نفس المرض بعد بلوغهم السن السادسة تقريبا، ومنذ ذلك التاريخ وهم يعيشون في جحر تملؤه الخردة في عمارة في حي باب الوادي بالعاصمة، دون أن يتمتعوا في يوم من الأيام باكتشاف المحيط الخارجي، فهم لا يعرفون شيء اسمه الشارع. في زيارة قادتنا لشارع محمد آيت عمر بباب الوادي، اكتشفنا قصة عائلة ربيعات التي تقطن به منذ أكثر من 49 سنة. فأفراد العائلة المتكونة من 12 شخصا، يعانون فضلا عن الفقر مرضا فتك بأربعة منهم، ثلاثة لا يزالون يصارعون الألم، أما الرابع فقد فارق الحياة. لدى وصولنا إلى الحي المذكور، سألنا شبابا كانوا هناك عن عائلة ربيعات، فتم توجيهنا إلى العمارة رقم 14 وتحديدا في الطابق الأول، وبعد قرع باب يعيد ذاكرة كل من يراه إلى قرون مضت، أطلت علينا صاحبة المنزل التي عرفناها عن أنفسنا وهوياتنا، فدعتنا إلى الدخول. وبعد أن تمكنّا بصعوبة من عبور ممرات داخل المنزل، بسبب العدد الهائل من الأكياس المملوءة بالقش والملابس القديمة التي كانت تملأ المكان وتضفي عليه جلبة غريبة، لمحت أنظارنا أجساد كانت بالكاد تظهر من تحت الأكياس.. في البداية لم نستطع تدقيق النظر سوى بعد التحديق في وجوه أصحابها.. وبعد لحظات من الدهشة والذهول، اقتربنا منهم فإذا بأكبرهم يلقي علينا السلام، ساعتها حاولنا تدارك أنفسنا لمعرفة القصة الكاملة للعائلة. أصبنا بالمرض في سن السادسة ولا نعرف الشارع إلا عبر النافذة أخبرتنا الأم "سعيدة"، أنها أنجبت 10 أطفال، أربعة منهم أصيب بمرض شلل الأطفال "البوليو" الذي فتك بالبنت الكبرى التي ماتت بعد سنتين من المعاناة، قبل أن تنتقل "اللعنة" ثم أصاب الأبناء الذين التقيناهم " محمد و سعدية و مهاني" مضيفتنا أنها عرضتهم على الطبيب لكن اخبرها انه لا يوجد أي أمل في شفائهم و لمعرفة الكثير تقدمنا من محمد الذي اخبرنا انه من مواليد 1971 و قد أصابه وهن على مستوى مفاصله في السن السابعة و منذ ذلك التاريخ و هو لا يستطيع الحركة الأمر الذي حال دون متابعة دراسته و عدم الخروج إلى الشارع و لا يعرف سوى الجدران الأربع التي تأويه و عائلته من البرد أما سعدية و مهاني فكانتا جلستان بالقرب من بعضهما البعض ففي البداية تهيأ لنا أنهم متقاربتان في السن لكن اكتشفنا أن سعدية تبلغ من العمر 36 سنة أما مهاني فسنها لا يتجاوز 16 سنة، أخبرتنا البنت الكبرى أنها دخلت المدرسة سنة واحدة لكن المرض منعها من مواصلة تعليمها و منذ ذلك التاريخ لم ترى الشارع حيث قالت"أتذكر انني كنت اخرج و أرى الشمس لكن منذ 30 سنة لم يسمح لي بمغادرة المنزل " الوقت الذي كان كلا من محمد و سعدية يقصاني لنا عن الأشهر التي قضوها بالمدرسة فإذا بالبت الصغرى مهاني تقطع حديثهما و تقول " أنا لم أخرج من المنزل أبدا....أبي لم يسمح لي يوما برؤية الشارع و لم أراه سوى من النافذة فقط". القطط تتجول فوق أجسادهم و كأنها أجسام جامدة و نحن نستمع لقصص قد لا نقول أشخاص بل أجساد بالكاد تعرف تفاصيلها سوى الوجه الذي كان مكتملا و هم وسط جحر مملوءا بأكياس بها ملابس قديمة قالت صاحبت البيت أنها صدقات جاءتها من طرف المحسنين- فإذا بمنظر القطط التي كانت تقاسم العائلة جحرهم يشد انتباهنا .و الغريب في الأمر أن تلك القطط لم تكتفي بغزو المكان بل كان عدد هائل منها يتجول بأجسام "محمد و سعدية و مهاني" و كأنها تتنقل فوق أجسام جامدة.تبرير الأم بتواجد القطط بذلك العدد لم يكن مقنعا لنا بل زادنا غموضا حيث قالت أنهم يدخلون لهم عبر النافذة. السلطات المحلية لا تعرف العائلة سوى في الانتخابات و ترسل لها و لزوجها بطاقة الناخب جحر العائلة الذي لا يفصله على بلدية باب الوادي سوى شارع ضيق لكن حسب تصريح الأم لم تأتيهم أي لجنة من البلدية لتقديم المساعدة رغم أنهم يسكنون بالمكان منذ 49 سنة مشيرة أن السلطات المحلية لا تعرف العائلة سوى في الانتخابات أين ترسل لزوجها بطاقة الناخب مشيرتنا أنها منذ 20 سنة أودعوا ملف لطلب سكن اجتماعي لكن دون جدوى سوى وعود يتلقونها، أخرها منذ أشهر تم إعلامهم أنهم تحصلوا على سكن اجتماعي بالحمامات لكن لم تأتيهم أي إرسالية بذلك الأمر حسب محدثتنا. الأب حول المسكن إلى مخزن للخردة وترك لعائلته مساحة متر ونصف شكوك كبيرة راودتنا بعد خروجنا من منزل العائلة الأمر الذي دفعنا إلى الاتصال بسكان الحي لمعرفة حقيقة الأمر، و أول اتصال لنا كان بسكان العمارة التي تقطن بها عائلة ربيعات منذ 49 سنة لكن معظم السكان لم يكن يعرف لكثير عنهم سوى عموميات و السبب هو عدم خروج أفراد العائلة لشارع منذ أكثر من 30 سنة ما عدا الأب الذي كان يخرج صباحا و يعود في المساء و بلال الذي غاب عن الحي قرابة السنتين حيث ذهب لتأدية الخدمة الوطنية و عاد منذ شهرين و ابن أخر سنه لا يتجاوز 14 سنة يبيت عند صاحب مقهى بالحي نظرا لضيق المنزل . توجهنا إلى المقهى أين اخبرنا صاحبها انه يحاول مساعدة العائلة بالقدر الذي يستطيعه حيث يسمح للابن الأصغر بالمبيت في المقهى بعد أن يقوم بتنظيفها مقابل مبلغ مالي كل شهر لشراء ملابس، و نحن نتحدث لهذا الأخير فإذا بشخص يقاطع حديثنا و يسألنا عن الموضوع الذي يشغلنا و بعد معرفته الأمر قال "عائلة التونسي أنها تسكن الحي منذ سنوات هم من وادي سوف لكن لهجتم توحي أنهم من تونس لهذا يطلق عليهم هكذا ...لديهم ثلاثة أبناء معاقين لكن لم نراهم منذ أكثر من 30 سنة و اضن أنهم ماتوا " ليضيف" سمعنا أيضا أن لديهم شابتين لكن لم نراهما أبدا و لا نعرف سوى أبوهم الذي يقال انه يعمل بسوق دلالة . و لمعرفة المزيد اتصلنا بالابن بلال الذي عاد من الخدمة الوطنية منذ شهرين اخبرنا انه ينام بالشارع نظرا لضيق المنزل موضحا انه منذ أن فتح عيناه في الدنيا و هو يرى بيتهم مملوء بالأكياس محاولا الهروب من الإجابة عن أسئلتنا و اكتفى بجملة واحد "أبي هو السبب".