تقاطعت شهادات النخبة في قناعة جماعية تشير إلى تقلص دائرة الرقابة على الأعمال الفنية والإبداعية، وذهبت إلى نفي وجودها، مبرزة هاجس الرقابة الذاتية اللصيقة بالإنسان وارتباطاته بالمجتمع. ورغم هامش الحرية المتوفر لدور النشر ومجالات التعبير بكل أشكاله، إلا أن هناك معاينات ميدانية تشير الى أن الرقابة أخذت لأبعاد وأوجه أخرى، وأنها ما زالت تطارد النخب من كل الدول، بما فيها تلك التي تدعي قيادتها للعالم الحر وتروّج الديمقراطية كمعتقد جديد تدق به أبواب المجتمعات المنغلقة وتدك به من أبى، فالرقابة لم تعد تمارس بالطرق البوليسية لحماية نظام أو زعيم أو طابو ما، وإنما بأساليب ذكية واستباقية تقوم على تحميل الفرد كامل مسؤولياته، وربطها بمصالح هذا المجتمع أو ذاك، تتباين حجيتها من ثقافة أو حضارة إلى أخرى، الأمر الذي ينقل معاناة مواجهة الرقابة الخارجية، إلى مكابدة ذاتية. ولتحسس درجة حرارة ترموتر الرقابة عندنا، اقتربنا من بعض الفاعلين في عالم الإبداع، منهم من تجاوب مع انشغالنا ومنهم من اقتنع تاركا أسئلتنا معلقة. دليلة قدور زهور ونيسي الرقابة الذاتية أقوى من الخارجية ترى الأدبية الكبيرة زهور ونيسي أن الرقابة كعمل مباشر من طرف الهيئات المخولة أو الرأي العام، أو مؤسسات النشر غير موجودة في بلادنا، إلا أنها تأخذ طابعا أشمل وهي الرقابة الذاتية للمبدع أو الكاتب، والتي تعتبرها أقوى من الخارجية على أساس أن بلدنا حديث الاستقلال والتنمية. وأوضحت الوزيرة السابقة أنها لم تتعرض لرقابة حذف أي كلمات سواء في نصوصها الأدبية الإبداعية، أو حتى من خلال نشاطاتها الثقافية والحكومية، وترد ذلك للأسلوب الحضاري الذي انتهجته في انتقاداتها وتدخلاتها. أزراج عمر فهم آليات عمل الرقابة كفيل بتجاوزها من جهته، ربط الشاعر أزراج عمر الرقابة في العالم العربي بتقليص الحريات وبحرمان المواطن من التعبير عن المشكلات التي يعاني منها، ويصنف الرقابة إلى نوعين، رقابة ذاتية وأخرى خارجية، ويقصد بالرقابة الذاتية، النمطية المعبرة عن الثقافة أو الإيديولوجية السائدة، أما الرقابة الخارجية فتمارسها الدولة أو المجتمع على الأفراد من خلال نوعين من الأجهزة الإيديولوجية، أولهما قمعي وثانيهما ثقافي وتربوي وأخلاقي. وأوضح شاعرنا أن أن أجهزة الرقابة تمارس بشكل مختلف أدوارها لكي تحقق الهيمنة باسم الحفاظ على الهوية أو الاستقرار الاجتماعي والسياسي، واعتبر ممارسة الرقابة على الإنتاج الأدبي والفني جزءا من ظاهرة الرقابة، مشيرا إلى أن المجتمعات المعاصرة تمارس شتى أشكال الرقابة مثل الرقابة على النماذج التي تنتقى للتنمية، بحيث تغربل كل ما يهدد باختراق أو تغيير النموذج الرأسمالي، وعليه فهو يعتقد أن دور النقد الذي يريد أن يؤسس للحرية الإيجابية مشروط بإدراك كيفية عمل الرقابة كبنية ثقافية غير واعية، وكأجهزة سياسية وإيديولوجية. وهكذا فإن هذا الإدراك كفيل بفهم آليات هذه الرقابة ومن ثمّ العمل على نقدها وتجاوزها. رابح خدوسي الأدب المثالي بين الرقابة الذاتية والحرية أما القاص رابح خدوسي فتحدث عن الامتياز الذي يتمتع به الكاتب الجزائري والذي أساسه الحرية المطلقة في الكتابة قبل عملية النشر، وحسبه فإن الرقابة تأتي في مرحلة ما بعد الطبع وتتخذ وجهين، إما مباشر أو غير مباشر ويقصد بالمباشر أن تكون من قبل جهات خاصة إذا أحدث ذلك المنشور ضجة أو مس بمصالح شخصية أو وطنية. أما الرقابة غير المباشرة، فيلمسها المعني بالأمر، من خلال تعرضه لضغوطات بطريقة أو بأخرى من تهميش أو إقصاء من المشاركة في التظاهرات أو مقاطعة القراء له. وكمسير لدار نشر، أوضح أنه لم يرفض أعمالا من قبل على أساس الجانب الإيديولوجي أو العقائدي، بل يقدر مدى صلاحيتها للنشر، بإبداء ملاحظاته وتوجيهاته، خاصة إذا تعلق الأمر بكاتب مبتدئ. ولذا فهو يعتبر الكتابة رسالة تحتاج إلى مراعاة المثل والضوابط والأطر التي تجعل عمله إنسانيا خالدا، فليست الحرية أن تقول ما تشاء بل أن تترك بصمتك بما هو نظيف يساير الفطرة، وذاك هو الأدب المثالي. ورغم ما قيل وما يقال عن الرقابة، إلا أنها تظل موضوعا شائكا ومتعدد الاتجاهات والرؤى خاصة في خضم التطور التكنولوجي، والأهم من كل هذا فإن المثقف الحقيقي هو مرآة عصره، منوط برسالة أخلاقية اجتماعية عليه أن يؤديها، من منطلق الحرية المسؤولة، بما لا يمس ثوابت الهوية والانتماء أو يخدش حياء الآخرين، فحرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.