يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}. تشير هاتان الآيتان إلى أحداث كانت غزوة بني المصطلق مسرحا لها، فلقد جاءت الأنباء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه القبيلة تتجمع له وتستعد لقتاله، وأن سيدها الحارث بن أبي ضرار قد أجمع عدته لهذا المسير. فسارع رسول الله بالمسلمين ليطفئ هذه الفتنة قبل اشتعالها، وخرج مع الرسول في هذه الغزوة جمع من المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج معه من قبل، ولعل الذي دفعهم إلى المسير تلك المرة هو ثقتهم بانتصار رسول الله ابتغاء الدنيا لا الدين. وانتهى المسلمون عند ماء يقال له المريسيع اجتمع عنده بنو المصطلق، وأمر رسول الله عمر بن الخطاب أن يعرض الإسلام على القوم، فنادى عمر فيهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا وترامى الفريقان بالنبل ثم أمر النبي أصحابه فحملوا على القوم، فلم يفلت منهم أحد إذ وقعوا جميعا أسرى بعدما قتل منهم جمع وسقطت القبيلة كلها بما تملك في الأسر في أيدي المسلمين. ورأى رسول الله أن يعامل المنهزمين بالإحسان، فحينما جاء قائد القبيلة المهزومة يطلب ابنته التي وقعت في الأسر، ردها عليه النبي ثم خطبها منه فتزوجها فأستحيى أن يسترقوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلقوا من بأيديهم من الأسرى. فكانت جويرية بنت الحارث من أيمن الناس على أهلها، فقد أعتق في زواجها مائة أهل بيت من بني المصطلق، ولقد حدث بعض الأمور التي لا يجوز التعليق عليها في تلك الغزوة، وكما هي عادة المنافقين أن يكدروا صفوة الجماعة المسلمة، وأن يبحثوا لها عما يوقعها في العنت والمشقة. إذ حدث أن خادما لعمر كان يسقى له من ماء المريسيع، وازدحم على الماء مع مولى لبني عوف من الخزرج وكاد العاملان يتقاتلا على الماء، فصاح الأول يا للمهاجرين وصاح الآخر يا للأنصار، واستمع على صياحهما زعيم المنافقين عبد الله بن أبي سلول، وكان في رهط من قومه، فرأى الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما أماته السلام من نعرات الجاهلية الأولى فقال: أوقد فعلوها؟ يعني المهاجرين نافرونا وكاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل يحرض قومه ويلومهم على أنفاقهم على المهاجرين ويدعوهم إلى التنكر لرسول الله وأصحابه، وقال لهم لو أمسكتم ما بأيديكم عن المهاجرين لانفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب زيد بن الأرقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه الخبر، وأسرع عبد الله بن أبي يبرئ نفسه وينفي ما قاله ويحلف أنه ما قال ذلك. ورأى الحاضرون أن يقبلوا كلام ابن أبي رعاية لمنزلته وسنه وقالوا، إن زيد بن أرقم قدوهم ولم يحفظ ما قيل ولم يلبث القرآن، أن نزل يصدق حديث زيد بن أرقم ويكذب عبد الله بن أبي ونزلت سورة المنافقون. ولم تخف الحقيقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن يصدر أمره بالارتحال، في وقت ما كان يروح في مثله وسار بالناس سائر اليوم حتى أمسى بهم وطيلة الليل حتى أصبحوا ليفوت الفرصة على بن أبي، حتى لا يتحقق مقصوده من إثارة الفتنة التي أرادها للمسلمين. ولقد جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من الصالحين وقال: يا رسول الله لقد علمت الأنصار أني أبر الأبناء، وقد علمت أنك تريد قتل أبي فإن كنت قاتله فلا تعهد لأحد بقتله لأني أخشى أن تنظر نفسي إلى قاتل أبي، فلا تدعني نفسي حتى أقتل من قتله فأكون قد قتلت مسلماً بكافر فأدخل النار، فإذا أردت قتله فاعهد إلي بقتله وأنا أقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نترفق به ما بقي بيننا. ويستمر الجيش في المسير حتى يصل إلى مشارف المدينة، ويقوم عبد الله بن عبد الله بن أبي ويمسك بتلابيب أبيه ويقول له: أين تذهب فيقول لأدخل المدينة فيقول له ولده الصالح: والله لن تدخل المدينة حتى تشهد أنك الذل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وإلا قتلتك، ولا يزال به حتى اعترف وشهد على مرأى ومسمع من الجيش كله، أنه هو الأذل ورسول الله هو الأعز. ونحن نتساءل: هل رأت الدنيا كلها إيمانا كإيمان هذا الرعيل الذي رباهم رسول الله على مائدة القرآن، وتعهدهم بأدب الوحي فأحسن تأديبهم حتى لم يعد في قلوبهم شيء لغير الله ورسوله ونصرة دين الله؟ لقد أحبوا الله ورسوله أكثر مما سواهما وأبغضوا لله فكان الله ملأ نفوسهم وقلوبهم وكان غضبهم غضبا لله، ولم يكن لحظ النفس منه نصيب، فلا عجب إذا رأينا الولد يعادي أباه في الله.