ثلاث فئات من العراقيين صدمهم الانسحاب الأمريكي من العراق, وتتوزع هذه الفئات بين راغبة ببقاء القوات الأمريكية وكارهة لها, والفئة الثالثة مترقبة لما يجري في العراق, ولم يتوقع الغالبية العظمى من العراقيين, أن يعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قرار الانسحاب, واستندت الفئات الثلاث إلى قناعات متباينة بهذا الخصوص. الفئة الأولى تلك التي تراقب ما يجري في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003, الذين لم يصدقوا ما سمعوه من انسحاب أمريكي حقيقي, ويتناقل هؤلاء القصص والمعلومات التي تتحدث عن شروع القوات الأمريكية منذ بداية الغزو, بتشييد المخابئ والمطارات ومدارج إقلاع وهبوط الطائرات, إضافة إلى مخازن الأسلحة المختلفة وقاعات التدريب والمطاعم والنوادي الليلية والمستشفيات.. وفي عشرات القواعد من بين 505 قاعدة أمريكية, شيد الأمريكيون فيها مدنا متكاملة, ومن أبرز هذه القواعد «قاعدة المطار في بغداد, وقاعدة عين الأسد بحديثة بالأنبار, وقاعدة الإمام علي في الناصرية جنوب بغداد, وقاعدة الصقر في الدورة جنوب بغداد, وقاعدة التاجي, وقاعدة البكر في العراق, وقواعد مشابهة في ديالى وكركوك والموصل وغيرها», والعراقيون الذي شاهدوا حجم البناء في هذه القواعد أو شاركوا في تقديم الخدمات للقوات الأمريكية, واصلوا الحديث بثقة مطلقة عن بقاء القوات الأمريكية لعشرات أو مئات السنين. ويردد هؤلاء باستمرار في مجالسهم هذه القناعة المطلقة, ويستشهدون بحجم البناء الهائل الذي يتم العمل فيه في عشرات القواعد الأمريكية, كما يشدد هؤلاء على أن الأمريكيين ليسوا بأغبياء ليشيدوا كل هذا البناء ثم يغادروه, وأنا استمعت إلى مثل هذا الكلام من البعض منذ بداية عام 2004, وبدون شك أن هذا الكلام يقنع الكثيرين, لأنه ينطوي على المنطق. أما الذي يتحدث في بداية الغزو الأمريكي عن هزيمة مؤكدة لقوات الغزو, فإنه يرمي حجرا في الظلمة ولا يعرف أين يقع وماذا يصيب, وفي هذه الأيام تجد أصحاب هذه القناعة في حيرة من أمرهم وأنهم مصابون ب»الصدمة» وهم يقارنون حجم البناء الهائل في القواعد الأمريكية, ومغادرة هذه القوات على وجه السرعة لتلك القواعد, وعندما يراقب العراقيون من أصحاب هذه القناعة الأرتال الأمريكية الطويلة التي تمتد على مسافة عدة كيلومترات, وهي تغادر تحت جنح الظلام, في كل ليلة, يسارع هؤلاء إلى خربشة رؤوسهم بهدوء ويرددون في دواخلهم لا نفهم ما يجري الآن!. الفئة الثانية من المراقبين والمحللين الذين يمقتون قوات الغزو الأمريكي ولا يتمنون بقاءها لساعة في العراق, إلا أنهم يقرأون الغزو من زاوية المشروع الأمريكي, ويدرك هؤلاء أن القضية لا تتعلق بالسيطرة على النفط, كما يروج الكثيرون, وأن الولاياتالمتحدة صرفت مبالغ طائلة منذ الشروع بغزو العراق, بغرض تشييد مشروعها الكوني انطلاقا من العراق, وأن الأمريكيين يعملون وفق خطط منهجية دقيقة وواضحة, ولا بد أنها تحسب الصغيرة والكبيرة, وتضع في الاعتبار جميع الاحتمالات, وأن الذين قرروا غزو العراق سيعملون المستحيل على الأقل للبقاء فترة أخرى. وما أن أعلن أوباما قرار سحب كامل القوات وقوله إن جميع الجنود سيكونون مع عوائلهم في احتفالات رأس السنة, أي قبل نهاية هذا العام, توقع البعض أنها ليست بأكثر من مناورة أو ما شابه ذلك, لكن تواتر الأخبار عن عمليات سحب واسعة وسريعة تجري في مختلف أنحاء العراق, وأن القوات الأمريكية قد غادرت العديد من المحافظات العراقية نهائيا, وأن عمليات تسليم القواعد الأمريكية تجري بصورة جدية, أصيب الكثيرون «بالصدمة» الحقيقة, والسؤال الذي دوخ هؤلاء يقفز بسرعة ويتكرر حول التخطيط الأمريكي والمشروع الكوني الذي بشر به المحافظون الجدد قبل غزو العراق وبعده, وما الذي تحقق منه خلال سنوات احتلال العراق, بل إن الكثيرين بدأوا يتحققون من حجم الخسارة في المشروع الكوني الأمريكي الذي أراد له الأمريكيون الانطلاق من العراق, فإذا به يتهاوى على أرض الرافدين بالصورة التي «تصدم الكثيرين». والفئة الثالثة تلك التي استقوت بقوات الغزو وصنعت وهم أمنها الشخصي والمؤسساتي بالاعتماد على القوات الأمريكية, وسرعان ما وجدوا أنفسهم في العراء ينطبق عليهم وصف المتنبي الذي قال في إحدى قصائده «قلق كأن الريح تحتي», ووسط «الصدمة» فإن هؤلاء لا يستطيعون استيعاب الحال الذي يجلسون فيه داخل مكاتبهم دون وجود الطائرات الأمريكية التي توفر لهم الحماية منذ بداية الغزو عام 2003. ترى ماذا بعد هذا النوع من «الصدمات»؟ وهل تشبه في نتائجها «الصدمة والترويع» الأمريكية التي سبقت الغزو ورافقته؟.