مراسلة خاصة بالسلام في طفولتي كانت مدينتنا الصغيرة تكاد تختفي وسط الحقول الخضراء التي تملأ المكان ، خضراء ربيعاً وصفراء صيفاً. كنت أحب الحقول كثيرا ، أثناء الحرث ، وأثناء الحصاد ، وفي فصل الربيع . لم يكن أبي فلاحاً ، ولا يملك أرضا لكني أحببت الارض وعشقت الحقول وهويت خضرة الربيع ! كنت استمتع بالتفرج على الفلاحين ، فأذهب مع اصدقائي يوم الخميس والجمعة الى أطراف المدينة نتفرج عليهم يحرثون الأرض ويشتتون الحبوب... نقف على حافة الأرض الواسعة ننظر بخشوع الى الجرار يثلمُ الأرض ، ووراءه الفلاح يحمل كيسا ، ويقبض منه وينثرُ الحبوب يمينا وشمالا ... وخلفهم طيور البلشون الأبيض تثب هنا وهناك تلتقط الديدان. تلك الطيور البيضاء التي لا أكاد أراها إلا في مواسم الحرث والبذر ، وفي بعض المواسم تشاركها اسراب الزرازير السوداء الانقضاض على الديدان. ويأتي الشتاء بأمطاره العاصفة وثلوجه القارصة فننسى الحقول. قد نذهب بعض الأحيان لكن لا نجد أحدا ُ سوى أرض محروثة مترامية أمام أعيننا. ويحل فصل الربيع ، وأول من يعلمنا بذلك أشجار اللوز ، فبراعمها هي أول ما يتفتح في الربيع ! وتتفتح الازهار البرية وسط الحقول المترامية وتنشطُ الحشرات ، وتتشكل فسيفاء جميلة رائعة يصنعها الربيع ، طالما بدت كأنها زرابي منبسطة .. شقائق النعمان، البابونج ، الياسمين الزرقاء ، الخبيز البنفسجي والفلفل البري الأصفر .. الفراشات والنحل والدبابير والسرعوفات واليعاسيب. مجموعة من الألوان الزاهية وسط بحر من الخضرة ! أما السنابل فترتفع سيقانها الى أعلى لدرجة أننا لا نظهر بالكامل اذا مشينا وسطها ... كنا نركض فرحين وسط الحقول نقطف شقائق النعمان ونطارد الفراشات والدبابير .. وكثير هي المرات التي نلتقي فيها بصاحب الارض فيلمحنا وسط الحقول فنخاف ونرهبه ، لكنه يبتسم ويُطمئننا ، فقط يلتمس منا أن لا نتبول في الحقول ، فالسنابل نعمة ، ولا يجوز أن نبول فوق النعمة!. فحرصنا على أن لا نفعل ذلك .. من السنبلة يكون الخبز وحرام أن يتبول المرء على الخبز! أما الانتقال من الربيع الى الصيف فلولا العطلة الصيفية لا نشعر به أبداً.. وفي فصل الصيف يسمح لنا بالدخول الى الحقول والاختلاط بالفلاحين .. ومنظر الحقول في الصيف مثير ومشوش ، اذ تسود الفوضى كل مكان ، الفلاحين ، وآلات الحصاد ، الرعاة، الاغنام والماعز ، والفقراء طالبوا زكاة " العشور" .. ولا وجود لطيور البلشون ...ورزم التبن مجمعة هنا وهناك. نركض فرحين مبتهجين ، متنقلين من جماعة الى أخرى ، ومن يرانا يعتقد أننا أولاد فلاحين سعداء بالغلة الوفيرة ! وكثيرا ما يلحون علينا أن نشاركهم الأكل، الكسكسى، خبز المطلوع، الزبدة، اللبن والبض المسلوق... فنرفض بشدة خجلين، كيف نأكل معهم وهم الذين يكدّون ويتعبون ؟ فلا نتناول شيئا سوى ماء القربة البارد الممزوج بالقطران ، ما أعذبه!. في فصل الصيف مدينتنا الصغيرة بأكملها تتحرك وتنشط، صوت الآلات في النهار، وأهازيج الأعراس في الليل... ويمتلئ السوق بألذّ الفواكه، العنب، البطيخ، الأجاص، المشمش، الزعرور، التين، الخوخ والبرقوق. الصيف ما أكرمه من فصل ، ألذّ الفواكه تزورنا في هذا الفصل! .... وتعم الفرحة مدينتنا لأن الله أنعم علينا بموسم وفير ... وتنتهى أعمال الحصاد وتجميع التبن فنأسف لذلك ، وتقفر الأرض الشاسعة المحيطة بمدينتنا الصغيرة الا من القشّ وبقايا الحصاد. وتمر الأيام سريعا... ويبدأ والدي يتحدث عن الدخول المدرسي ، وبين الحين والأخر نسمع هزيم الرعد مصحوبا بأمطار خفيفة ، إنه الخريف ، ويبرد الجو...عندما أتذكر طفولتي ، و أتذكر لهوي ومرحي بين الحقول ، وطنين النحل وتغريد العصافير، وهدير آلات الحصاد..السنبلة الخضراء، السماء الزرقاء، الوردة الحمراء والطفل الصغير أشعر بالرباط المقدس الذي يربط الإنسان بالأرض.