تنشر "صوت الجلفة" نص مداخلة الإعلامي إبراهيم قارعلي في ندوة أكاديمية المجتمع المدني بالمسيلة حول موضوع تطور الخطاب الثقافي ومعالجة اختلالاته وعلاقته بالخطاب السياسي. ليس من الضروري أن نبحث في القواميس الأدبية أو الفلسفية والعلمية عن تعريف للسياسة أو للسياسي، وكذلك قد لا نحتاج أيضا إلى مثل هذه القواميس من أجل تعريف للثقافة وللمثقف؟! إنني أكون منذ البداية قد وضعت علامة للاستفهام وأخرى للتعجب، باعتبار أن السبب هو الذي يزيل العجب، ولذلك فإذا كانت الثقافة أسئلة فإن السياسة هي الأجوبة أو الأجوبة التي تطرحها الثقافة حيث أن السياسة قبل كل شيء هي مشروع ثقافي. إن كل من العمل السياسي والعمل الثقافي خطان متوازيان، ومن طبيعة الخطين المتوازيين أنهما لا يلتقيان! وكما يقول طلبة الرياضيات فإذا التقيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله! ليس على سبيل التنكيت ولكنني قد أردت أن أعبر عن العلاقة بين السياسة والثقافة بطريقة كاريكاتورية، وعلى ما أعتقد فإن هذه الصورة الكاريكاتورية أصدق تعبير يمكننا أن نختصر بها العلاقة بين المثقف والسياسي في الجزائر. لقد أصبح الكثير من المثقفين الجزائريين يرفضون ممارسة العمل السياسي مثلما يرفضون الكتابة في الشؤون السياسية وذلك على ما أعتقد أخطر من الأولى، وعندما أقول العمل السياسي لا أقصد بالضرورة النضال الحزبي مثلما قد يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى. بل العمل السياسي أوسع من النشاط الحزبي الذي أعتقد أنه قد تحول إلى مظهر فلكلوري أو كرنفالي أو إلى "بوليتيك" على حد تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي. بالفعل، إن الأحزاب في الجزائر تكون قد تخلت عن العمل السياسي وأفضل هذه الأحزاب من تمتلك خطابا شعبويا أو انتخابيا، ومن الطبيعي أن تتخلى الأحزاب عن برامجها السياسية بعدما تحولت إلى ما يشبه الشركات ذات الأسهم أو ذات الشخص الوحيد حيث دخلت المقاعد الانتخابية المحلية أو البرلمانية سوق الصفقات العمومية أو المزايدات العلنية ولم يعد ينقص العملية الانتخابية إلا أن يشرف عليها محافظ البيع، والأغرب أن الموثقين هم الذين قد أصبحوا يبرمون عقود التحالفات الانتخابية على الرغم من البطلان القانوني للعملية التوثيقية ولذلك، أكاد أجزم أن الفساد المالي يوجد في الأحزاب أكثر مما يوجد في البنوك والمؤسسات الاقتصادية! أين المثقف الذي يصرخ في وجه الفساد السياسي الذي أصبح ينخر السلطة والمجتمع معا، والمؤكد أن فساد المجتمع أخطر من فساد السلطة! فالسلطة قد يتم إصلاحها بالانتخاب أو بالانقلاب أو بالثورة ولكن كيف السبيل إلى إصلاح المجتمع إذا كان المثقف قد استقال من وظيفته الأساسية بل من وظيفته السياسية إذا كان الأمر يتعلق بالإصلاح الاجتماعي أو بالإصلاح السياسي أو بالثورة الاجتماعية وبالثورة السياسية. إن السياسة قبل كل شيء مشروع ثقافي، وأي عمل سياسي لا يرتكز على الثقافة أو لم تكن الثقافة هي الأساسات التي يقوم عليها، فإن مثل هذا البناء آيل إلى السقوط، وعندها لا يفيد المثقف البكاء على الأطلال إذا كان قد انسحب وترك غيره يملأ الفراغ! صحيح أن المثقف كثيرا ما يتعرض إلى الإقصاء والتهميش وحتى إلى التجويع والاضطهاد، لكن لا يجب عليه أن يجعل من الاضطهاد عقدة يحملها حيثما حل وارتحل مثل عقدة "أوديب" أو مثل صخرة سيزيف! ولذلك، من الخطر أن تتحول عقدة الاضطهاد التي يشعر بها المثقف إلى انتقام في مرحلة قادمة من مراحل التطور التاريخي. بل يجب أن يكون برومثيوس الذي جاء بالشعلة المقدسة حتى ولو كلفه ذلك حياته! إن قدر المثقف أن يحترق من أجل يضيء الطريق بل هو تلك الشمعة التي تبدد ظلام الدهاليز! تقتضي المسؤولية التاريخية أن ينخرط المثقف بكل حرية ومسؤولية في النقاش السياسي الذي يهم الشأن العام، ذلك النقاش الحقيقي الذي يتمحور حول القضايا المصيرية والجوهرية الراهنة وليس حول تلك القضايا الشكلية التي كثيرا ما تصرف الأنظار عن تلك القضايا الحقيقية التي أصبحت الصحافة تعمل من جانبها على تمييعها حيث تساهم هي الأخرى في تخدير الرأي العام بعدما دخل غرفة الإنعاش! وإذا كان لابد أن نعرّج على ما يصطلح عليه بالثورات العربية، فإنني أستغرب كيف أن المثقف العربي بل المثقف الجزائري أيضا يزعم أنه قد بشّر بها في كتاباته خاصة الإبداعية منها، بينما هذا المبدع أو ذلك المثقف لم يقم من قبل بأي موقف سياسي بل لم نسمع أو نقرأ له أي تصريح سياسي، بل إن الذي قد كان يبشر بها سرعان ما كفر بها! لقد ازدهرت الحركة الثقافية في الجزائر في زمن الأحادية حيث كان المثقفون في الواجهة السياسية وهم الذين يتقدمون الصفوف الأمامية، ومن سخرية الأقدار أن يتقوقع المثقفون بعدها حول أنفسهم في مرحلة التعددية ويلتزمون الصف الأخير والصمت والسكوت، وإذا كان صمت السياسي يعبر عن حكمة باعتبار أن الصمت لغة دبلوماسية عند السياسيين، فأعتقد أن الصمت بالنسبة إلى المثقف خيانة ثقافية وهي الخيانة التي قد تكون أخطر من خيانة المحارب في ساحة المعركة! إن المثقف قبل كل شيء موقف فلا يوجد مثقف بدون قضية بل إن القضايا ما وجدت إلا ليحملها المثقف، ولكن أي مثقف وأي قضية، علامة للاستفهام وأخرى للتعجب؟! إبراهيم قارعلي