(إن تحديات الأمن والعدالة تتفاقم في ليبيا جراء الانتشار واسع النطاق لمخلفات حقبة القذافي من سلاح وذخيرة، حيث يُقدَّر مخزون الأسلحة الليبية بأكثر من 100 ضعف مقارنة بما عُثر عليه في العراق، ومعظمه غير مؤمَّن).. حينما يصدر هذا الرقم التقديري عن مركز دراسات؛ فإنه سيتهم بالطبع بالافتقار إلى الدقة، وربما العبثية في التقدير، لكن حيث إن هذه العبارة هي ما خلصت إليه وزارة الخارجية البريطانية في تقرير صادر لها مؤخراً؛ فإنه ليس متاحاً لدينا أن نأخذه إلا على محمل الجد. والجد بالتأكيد لا يعني التصديق وإنما الحذر والانزعاج الشديد؛ فكثيراً ما تطلق الخارجية البريطانية أكاذيب لكنها تؤسس عليها جرائمها الاحتلالية فيما بعد، وقبل اثني عشر عاماً كان توني بلير رئيس الحكومة البريطانية السابق يشرعن هو وجورج بوش رئيس الولاياتالمتحدة السابق الحرب على العراق وإطاحة نظام صدام حسين بناء على تقارير اعترفت استخبارات بلديهما بعد ذلك بأنها كانت مغلوطة عن (أسلحة الدمار الشامل) والصفقة المزعومة بين العراق والنيجر على توريد يورانيوم إلى نظام صدام حسين.. دولة مثيرة للقلق وعليه فإن صدور هذا التقرير الذي وضع له عنوان له دلالة خاصة (ليبيا - دولة مثيرة للقلق)، يبعث على القلق جداً باحتمال وجود نوايا خبيثة تدبرها القوى الغربية لليبيا، خصوصاً إذ جاء ضمن حملة محمومة من الإعلام الغربي على ليبيا، وتعاظمت بتصريح آخر في غاية الخطورة ورد على لسان وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان أيضاً، جاء فيه إن (جنوب ليبيا تحول إلى (وكر أفاع) للمتشددين الإسلاميين وإن الطريقة الوحيدة للتعامل معه هي من خلال تحرك جماعي قوي من الدول المجاورة)! (دولة مثيرة للقلق).. (وكر أفاع)، تعبيران، أحدهما له دلالة سياسية مهمة، وبتتبعه وُجد أنه استخدم مؤخراً عدة مرات في مواضع استراتيجية بالغة الأهمية، فمصر في الشهر قبل الأخير لرئاسة د.محمد مرسي صارت (دولة مثيرة للقلق) في تقرير الحريات الدينية في الكونجرس الأمريكي، وبعدها لم يلبث مرسي في الحكم طويلاً، واليمن كذلك، وهي محل تغيير أيضاً.. أما الثاني فهو تعبير استخدمته أكثر من دولة أوروبية أهمها فرنسا للتعريض بالإسلاميين. لا يمكن إنكار وجود أزمة أمن في ليبيا، ولا أزمة سياسية هناك، ولكن ما يمكن الجزم به في المقابل هو أن الفريق العلماني الموالي للغرب هو الذي وضع العجلة أمام الحصان في ليبيا، ويظل رافضاً لبناء المؤسسات على أسس ديمقراطية حديثة، وهي تماثل تماماً ما سلكه التحالف العلماني، اليساري الليبرالي في مصر، ونظيراه في تركيا وتونس، حين وقف حائلاً دون استمرار أي مؤسسة منتخبة في البلاد سواء أكانت مجلس الشعب أم الشورى أم الرئاسة؛ إذ إن الأداء السياسي والأمني لهذا التيار في ليبيا ممهد لحدوث الأسوأ في ليبيا، والذي قد يكون غزواً غربياً، وربما إقليمياً للبلاد. تطالب القوى المرتبطة بالغرب سواء من التيار الليبرالي أو فلول نظام القذافي بحل المؤتمر الوطني (البرلمان)، وهو الجهة الوحيدة المنتخبة بليبيا، وهذا يذكر بما حصل لدى الجارة الشرقية، مصر، حيث أوشكت أن تمضي عامها الثاني دون برلمان، وهو ما لم يحدث منذ عقود طويلة في تاريخها.. أما السلطة التنفيذية فمتغيرة باستمرار، بل يحبط الآمال بشأن الاستقرار في البلاد.. أما الحالة الأمنية؛ فإن فلول النظام القديم عازمة على إبقاء البلاد في حال الفوضى، تشاطرها القوى المتغربة التي تكن حالة عدائية لكتائب الثورة التي تصفها دوماً ب(الميليشيات) لغرض تهميش دورها في الحفاظ على بنية الأمن في البلاد. مشكلة ليبيا الأولى والحق أن مشكلة ليبيا الأولى، والتي يخشاها الغرب، ليس في الفوضى، فهو يسمح بها في أماكن كثيرة، ولا في عدم اكتمال مؤسساتها السياسية فهو يقر دولاً كثيرة على ديكتاتوريتها وبقائها دون مؤسسات مكتملة، ولا في تنوع أطيافها، فذاك أصل الديمقراطية في أي مكان (يسمونه في البلدان العربية بالاستقطاب تبغيضاً وتنفيراً)، إنما مشكلتها العظمى التي تشاطرها سوريا بقدر ما، أن قواها العسكرية والأمنية ليست جميعها في حافظة غربية؛ فبعض الكتائب، وربما معظمها (شاردة) عن الحظيرة الغربية بخلاف دول إسلامية كثيرة، ولذلك فالآلة الإعلامية الممهدة للتدخل الخارجي في الشأن الليبي بدأت بشن هجوم ضارٍ، فإذا كان وزير الدفاع الفرنسي قد تحدث عن (وكر أفاعٍ) في الجنوب الليبي، فلأن فرنسا لها أطماعها الخاصة في جبال تيبستي الذي يحوي ثروات كبيرة من الذهب واليورانيوم، وإذا كان الكاتب المصري المخضرم محمد حسنين هيكل الذي ينظر إليه البعض على أنه تعبير عربي عن الهوى الغربي، محمد حسنين هيكل قد قالها صراحة هذا الأسبوع في حوار متلفز لفضائية CBC: (نحن دائماً نقول إن الخطر من الشرق والآن الخطر من الغرب)! (تحويل بلا مواربة للعدو الاستراتيجي من الكيان الصهيوني إلى ليبيا العربية المسلمة)، ويحدده هيكل بدرنة في شرق ليبيا؛ فلأن أكثر من عنصر يجعل الحشد ضد الشرق الليبي ذو وجاهة لدى أدوات الغرب؛ فتضخيم فكرة (الإرهاب) و(القاعدة) في الشرق الليبي تخفي أطماعاً في نفطه من جهة، ويقوض فكرة توازن القوى في ليبيا لصالح الكتائب ذات التوجه القريب من النظام السابق، وقوى التدخل الخارجي، والأخطر أنه يصب في وعاء التقسيم الذي وضعت به سيناريوهاته في الدوائر الغربية، ومنها تلك التي قال أحد رجالها لهيكل شخصياً في الحوار الذي وصفه فيه بأنه (زائر أمريكي) نصاً: (أخشى مما يحدث في درنة، أخشى أنكم إذا لم تحاربوا في درنة فقد تجدون أنفسكم تفعلون ذلك في مرسى مطروح أتيت أخيراً هناك 300 عنصر من القاعدة وصلوا، واستقرت في درنة مؤخراً)، والكلام عن خط (درنة مرسى مطروح) هو حديث يتماهى بقوة مع مخطط كشف عنه منذ شهور عن تقسيم لليبيا قد يمتد إلى إقليم يتسع من بنغازي أو طبرق إلى مرسى مطروح، ويضم قبائل أولاد علي المنتشرة عبر الحدود، والتي تلقت مناشدات من أطراف ليبية بالعودة ل(الاستيطان) بالشرق الليبي. وما يعزز هذا التصور، ما فجره الإعلام المصري مؤخراً عما قيل إنه (جيش مصري حر) يتدرب في الشرق الليبي، وسط دعوات إعلامية لتوجيه ضربة في العمق الليبي، وهو ما قد يدفع في عدة اتجاهات، إما نشر الفوضى عبر الحدود، أو تغيير التوازن الحاكم في ليبيا وتجييره باتجاه يعزز من احتمال حلول انقلاب ميليشياوي غربي يحل بديلاً عن النظام الحالي الذي ينبثق من مؤسسة المؤتمر الوطني، أو ينعش تصورات حول إرادة النظام المصري في ممارسة ضغوط حقيقية على ليبيا من أجل التدخل لحل مشكلة نقص الغاز المصرية التي تفجر أزمة طاقة تؤثر على قطاع الكهرباء الحيوي في البلاد. هل يغزو الغرب ليبيا؟.. بل متى؟! ما من شك، رغم كل هذا أن ثمة مشكلات جوهرية في الداخل الليبي، وأن سلطة (الكتائب الحافظة للأمن والاستقرار) من جهة، و(الميليشيات المخربة) هي إحدى المعضلات الناجمة عن الوضع الفوضوي الذي واكب التحول العسكري السريع للثورة الليبية، وليس ثمة ما يساور أحد في ليبيا أن للخارج يد فاعلة في الداخل الليبي، وأن ثمة من يزعجه أن يحمي البرلمان قوى إسلامية ووطنية حقيقية، لا تريد جر البلاد نحو الفوضى، ولا ضمان تدجينها لتعود إلى التبعية للقوى الخارجية من جديد، وتسعى لبناء مؤسسات الدولة واستكمال استحقاقات الانتخابات المحلية، وصياغة الدستور، لذا فقد فجر هؤلاء القلقون من سير ليبيا باتجاه صحيح، قضايا مثل اختطاف السفير الأردني، والدبلوماسي التونسي، والتفجيرات التي تربك الوضع الأمني، وتسوغ اعتبار الغرب ليبيا (دولة فاشلة)، وتقدم مبررات لغزو غربي.. سواء بشكل مباشر أو عبر أيدٍ عربية.. فقبل ثلاثين عاماً، وحينما عقدت النية الصهيونية على اجتياح الجنوب اللبناني وإفراغ جنوبه من المقاومة الفلسطينية والإخلال بالتركيبة الدينية للجنوب، وإحلال قوة طائفية مكان الفلسطينية في تلك المنطقة لتمثل شريطاً حدودياً سكانياً سميكاً، قال الجنرال ألكسندر هيغ وزير الخارجية الأميركي لآرييل شارون: ثمة حاجة إلى (استفزاز واضح يعترف به العالم)، وكانت مجموعة (أبو نضال) الفلسطينية الغامضة جاهزة لتحقيق هذا، فنفذت عملية اغتيال فاشلة للسفير الصهيوني في لندن، فجرح ساقه واجتيح لبنان! الكثيرون الآن في ليبيا يخشون من تحول سؤالهم (هل يغزو الغرب ليبيا؟) إلى (متى؟)، خصوصاً وهم يسمعون أزيز أصوات الطائرات الغربية فوق طرابلس، بعد أن جرفت الأمواج كل طحالب الغرب إلى شواطئها الفسيحة..