تحت عنوان (مصر رهينة إسرائيل) نشر ديفيد هيرست مقالا في صحيفة (ذي هافينغتون بوست) استعرض من خلاله تورّط المخابرات الأمريكية في شؤون إيران مدّة طويلة، وكيف تمّت معرفة ذلك بعد ستّين عاما. إلاّ أن المفارقة في رأي هيرست هي أن تدخّل (السي آي إيه) في انقلاب مصر وشؤونها قد لا يستغرق مثل هذا الوقت. يروي هيرست حكاية انقلاب مصدق في إيران، ويدخل إلى موضوع مقاله الخاص بسرقة الغاز المصري، وذلك في معرض استعراضه للتحقيق الاستقصائي الذي أجراه الصحفي المعروف كلايتون سويشر حول الملف. نصّ مقال ديفيد هيرست: استغرقت المخابرات الأمريكية (السي آي إيه) ستّين عاما إلى أن أعلنت تورّطها في الانقلاب الذي أطاح ب (محمد مصدق) أوّل رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا في إيران، إلاّ أن الظروف التي أحاطت بالانقلاب على محمد مرسي أوّل رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر قد لا تستغرق معرفتها مثل تلك المدّة الطويلة، بغض النّظر عمّن وقف وراء الانقلاب. حسم مصدق مصيره حينما بادر إلى تأميم إنتاج إيران من النفط، والذي كان قبل ذلك تحت سيطرة شركة النفط الإنجليزية الفارسية، والتي أصبح اسمها فيما بعد (بريتيش بيتروليوم). وكذلك كان الغاز هو عدو مرسي، أثبت مرسي أنه كان عقبة في طريق إبرام صفقة مغرية مع إسرائيل، والتي قد لا يستغرب أحد الآن إذا علم بأنها على وشك أن تبرم، خاصّة وأنه قد أزيلت العقبة من طريقها. وأمضى كليتون سويشر من وحدة الجزيرة للتحقيقات الصحفية خمسة أشهر وهو يبحث في ملفات الفساد المتعلّقة ببيع الغاز المصري لإسرائيل، ويكشف تقريره وهو بعنوان (طاقة مصر المفقودة) النقاب عن أن مصر خسرت كمّيات مهولة من المال يقدّر بحوالي 11 مليار دولار، إضافة إلى 20 مليارا أخرى على شكل ديون وغرامات قانونية بسبب بيع الغاز بأسعار زهيدة جدّا لكلّ من إسرائيل وإسبانيا والأردن. مقابل ذلك، جمع حسين سالم، المصري الذي كان الشخصية المركزية في إبرام الصفقة ومؤسّس الشركة المصرية-الإسرائيلية المسمّاة (غاز شرق المتوسّط)، ثروة طائلة. ويذكر أن سامح فهمي، الذي عمل في البداية مع حسين سالم ثمّ أصبح وزيرا للنفط من 1999 إلى 2011، قد ألقي القبض عليه مباشرة بعد ثورة الخامس والعشرين من جانفي وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما، أمّا حسين سالم فألقي القبض عليه في أحد بيوته في مدريد، إلاّ أنه لم يسلّم للسلطات في مصر، وفي العام الماضي ألغيت الأحكام الصادرة ضدهما في انتظار إعادة محاكمتهما في وقت لاحق. تلاعب الشياطين مخطّط التلاعب كان بسيطا جدّا، فشركة غاز شرق المتوسّط تشتري الغاز بدولار ونصف لكلّ مليون وحدة حرارية بريطانية، (ثمّ رفع السعر فيما بعد إلى ثلاث دولارات)، ثمّ تبيعه لشركة الكهرباء الإسرائيلية بسعر أربع دولارات لكلّ مليون وحدة حرارية بريطانية. كان ذلك في نفس الفترة التي كانت ألمانيا تدفع فيها ما بين 8 إلى 10 دولارات ثمنا لمليون وحدة حرارية بريطانية، بينما كانت اليابان تدفع 12 دولارا. حسين سالم، الذي كان ضابط مخابرات مصري في الستينيات، اختار شركاء له في الصفقة من داخل جهاز المخابرات الإسرائيلي. كان شريك حسين سالم في شركة غاز شرق المتوسّط هو عميل المخابرات الإسرائيلي السابق يوسي ميمان، وكان مدير (الموساد) السابق شابتاي شافيت هو أحد مدراء الشركة الكبار، وهو الذي أقنع رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت إيرييل شارون بتوقيع الصفقة، حينها وصفت صحيفة (يديعوت آهارنوت) حسين سالم بأنه (الرجل رقم واحد) في عملية التطبيع بين البلدين. وما لبثت الثورة المصرية أن أوقفت تصدير الغاز إلى إسرائيل التي اكتشفت في ذلك الوقت كمّيات كبيرة من الغاز تحت مياه شرق المتوسّط، فلم تعد تنظر إلى مصر على أنها مصدر للغاز وإنما كوسيلة لتسييل غازها هي تمهيدا لتصديره إلى الأسواق العالمية. ونظرا لوجود ما يقرب من 26 تريليون قدم مكعّب من الغاز في حقل ليفياثان وعشرة تريليونات أخرى في حقل تامار، فقد أضحت إسرائيل تمتلك ما يكفي من الغاز للاستجابة لمتطلّبات الاستهلاك المحلّي ولبيع كمّيات أخرى منه، إضافة إلى ذلك لمّا كان يتوقّع هبوط سعر الغاز خلال السنوات القادمة فإن إسرائيل بحاجة إلى أن تبيعه الآن. طرد مرسي كان الحلّ الوحيد في هذه الأثناء ارتفع طلب المستهلكين من الغاز داخل مصر إلى معدلات فاقت قدرتها على الإنتاج، الأمر الذي عجزت بسببه مصر عن الوفاء باِلتزاماتها اتجاه الشركات الأجنبية التي وقّعت معها عقودا لتصدير الغاز، وبالتالي راحت مصر تبحث عن سبل لاستيراد الغاز من خلالها. خطة إسرائيل هي الاستفادة من معامل تسييل الغاز الموجودة في مصر لتسييل الغاز الإسرائيلي ثمّ تصديره عبر قناة السويس التي تضمن وصوله إلى الأسواق الآسيوية المربحة. شكّل مرسي عقبة، ليس فقط في طريق استيراد الغاز الإسرائيلي لمصر وإنما أيضا في طريق الاستفادة من معامل تسييل الغاز المصرية وفي طريق تسخير قناة السويس وسيلة لتصدير الغاز الإسرائيلي من بعد إلى الأسواق العالمية. وحصل سويشر على مقابلتين في غاية الصراحة، كانت إحداها مع إدوارد ووكر السفير الأمريكي السابق في مصر الذي يقول جهارا نهارا ما لا يجرؤ سوى عدد قليل جدّا من زملائه السابقين في الخارجية الأمريكية على الاعتراف به اليوم: (للإخوان المسلمين سمعة راسخة جدّا بأنهم ليسوا على درجة كبيرة من التعاطف مع الغرب، وبشكل خاصّ مع الولايات المتّحدة الأمريكية، لذلك لم يكن في الحقيقة من مصلحتنا أن نراهم ينجحون)، ويمضي شارحا لماذا يعتبر عبد الفتّاح السيسي، الرئيس الذي نصّب مؤخّرا، جذّابا جدّا: (السيسي جذّاب لأنه ليس مرسي، فجلّ همّنا هو أن نبقي العلاقة بين مصر وإسرائيل ونحافظ عليها). وأمّا المقابلة الثانية فهي مع سايمون هندرسون من معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى، الذي يقول إن تغيير الحكومة في مصر يعني أنه بات بإمكان إسرائيل إعادة النّظر في خيار تحويل بعض غازها إلى غاز طبيعي مسال. في ظلّ حكم مرسي لم تكن هناك ثقة في أن مصر ستسمح بتصدير شحنات الغاز (الإسرائيلي ) عبر قناة السويس، ثمّ ينهي كلامه بصراحة متناهية قائلا: (بإمكان الشعب المصري أن يقرّر بنفسه إذا ما كان يفضّل أن ينعم بالكهرباء على مدى 24 ساعة في اليوم نتيجة للتعامل مع إسرائيل واستيراد الغاز منها أو أن يبقى في الظلام عدّة ساعات كلّ يوم ثمنا للالتزام بالمبادئ). هل كان أمام مرسي خيار أفضل حينما وصل إلى السلطة؟ الجواب: نعم. فقد وافقت قطر على تزويد زبائن الشركتين اللتين كانتا تصدّران الغاز من مصر بما بين 18 إلى 24 شحنة من الغاز الطبيعي المسال. لم تكن لدى مصر القدرة على تحويل الغاز الطبيعي المسال إلي غاز، لذا تقرّر إقامة مرفق عائم للقيام بذلك (تبنيه قطر)، ومقابل ذلك تقوم الشركات التي تدير معملي تسييل الغاز الطبيعي بتوريد 500 متر مكعّب إضافية من الغاز المنتج محلّيا إلى السوق المصري. وافقت قطر على تزويد الشحنات الخمس الأولى مجّانا، ممّا يعطي مصر فرصة هي بأمسّ الحاجة إليها لتستعيد أنفاسها، وممّا يسهم أيضا في تخفيض سعر عبوات الغاز المخصّصة للاستخدام المنزلي داخل البلاد. وكانت (رويترز) قد نقلت عن خبراء قولهم: (لا شيء على الإطلاق يمكن أن يضاهي صفقة التبادل التي منحتها قطر لمصر لصالح الأخيرة). وبعد الانقلاب العسكري ادّعى المسؤولون المصريون -الذين قبلوا بالشحنات الخمس المجّانية في سبتمبر- أنهم لم يتمكّنوا من التوصّل مع القطريين إلى سعر، لكن في ذلك الوقت امتدح الأمر واعتبر مخرجا من مأزق، ولم يخالف في ذلك إلاّ إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية. ثمّ عمد المسؤولون المصريون إلى إلغاء عقد إنشاء معمل لتحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز (مع قطر) بما يمكّن مصر من الاستفادة ممّا يمكن أن تستورده من غاز طبيعي مسال. من الواضح أن هذا القرار كان سياسيا بحتا علّقت عليه (الواشنطن بوست)، قائلة إن القطيعة مع قطر سوف تؤدّي إلى صيف حارق وسوف يندم عليها النّظام فيما بعد. "اقبلوا الغاز القادم من إسرائيل" إذن، هذا هو كلّ ما في الأمر، وخلاصته: (اقبلوا الغاز القادم من إسرائيل رغم أن احتياطيكم أكبر من احتياطهم مرّات عديدة أو تصبّبوا عرقا واقبعوا في الظلام، واقبلوا أيضا بأن دولتكم الآن عالة وتابعة، واقبلوا بأنه نتيجة لهذه الصفقات سوف يثقل كاهل مصر بديون الغاز المستحقّة للشركات الأجنبية التي تدير معملي تسييل الغاز الطبيعي، ولإعطائكم بعض فكرة عن حجم الدين لكم أن تعلموا بأن يونيون فينوزا تقاضي مصر بمبلغ 6 ملايير دولار، وهو ما يعادل قيمة نصف احتياطييها من العملة الأجنبية). وقالت مجلّة (الإيكونوميست) إن مجموعة (بريتيش غاز) قد تمضي قُدما هي الأخرى وتقاضي مصر. واقبلوا أيضا بأن الغاز الإسرائيلي سوف يستورد من خلال هذه الشركات الخاصّة التي باتت مصر رهينة لها. في الشهر الماضي وقّعت يونيون فينوزا اتّفاقية نوايا لشراء 5ر2 تريليون قدم مكعّب من حقل تامار على مدى خمسة عشر عاما، فلا عجب إذن أن إسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية مسرورتان بالانقلاب على مرسي، وهذا ما يعبّر عنه صراحة يوسف باريتزكي وزير الطاقة الإسرائيلي السابق، إذ يقول: (بعودة السيسي وعودة النّظام أظنّ أننا الآن نرى الربيع العربي، حقّا نراه). لكن ماذا عن المصريين الذين سيعانون في شهر جويلية من انقطاع الكهرباء في حرارة الصيف الخانقة بسبب شحّ الغاز؟ وماذا عن الأثار الأخرى الناجمة عن نقص الغاز مثل تعطّل إنتاج الأسمدة؟ وهل سيسرّ المصريون إذا علموا بأنهم خسروا 11 مليار دولار، وأنهم يطالبون بدفع غرامات وتعويضات تقدّر بعشرين مليار دولار أخرى، وأنه نتيجة لكلّ ذلك ستصبح مصر والأردن والسلطة الفلسطينية جميعها عالة على إسرائيل في احتياجاتها إلى الغاز؟ أكثر من عامل واحد أدّى إلى الانقلاب على مرسي، لقد فقد السيطرة على الجيش، هذا إن كان له ابتداء أيّ سيطرة على الإطلاق، وفقد شعبيته وفشل الإخوان المسلمون في الحفاظ على وحدة معسكر الثورة، لكن لا أحد يعلم يقينا إلى أيّ مدى كانت صفقات الغاز السرّية هذه عاملا حاسما في إسقاطه، لكنها وفّرت بلا شكّ حافزا ماليا لتغيير النّظام.