بقلم: محمد العويد كثيراً ما نسمع هذه العبارة وأمثالها، مثل: أفنى عمره في تربية أبنائه، كنت أعمل دواماً إضافياً من أجل أبنائي، لم يتزوج أو لم تتزوج براً بأمها، وغيرها كثير، وهي عبارات تدل على المبالغة في العطاء والبذل، ونسيان حظ النفس بصورة لا داعي لها، ولو قلت لأحدهم: (لا تبالغ في برك لوالديك) لاستهجن كلامك واعتبره نوعاً من الدعوة إلى العقوق، ولَعَبَّر لك عن أن حياته كلها وقف على والديه، بينما هو يؤمن بصحة عبارة (لا تبالغ في العبادة)، مع أن حق الله تعالى أولى من حق الوالدين. وعلى ضوء هذا التصور أطلت علينا مبالغات لا حاجة لها، بل وبعضها فيه مبالغة كبيرة، تتنافى مع الشريعة من حيث إن الشرع يوجب على المسلم أن يراعي حقه إيجاباً، حتى لا ينقلب على حقوق الغير، وألا يستهلك نفسه في أداء حق الغير؛ حتى لا يبقى له ما يقدمه لنفسه، وفي الحديث الصحيح (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) رواه البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه والناس أغلبهم بين مقصر في حقوق الغير وبين مبالغ في إعطائهم حقوقهم بقدر زائد، فهم أحوج ما يكونون إلى التوازن، والوسط هو ما دعت إليه نصوص الشرع من الاهتمام بالنفس والغير. إن القصور في هذا الفهم أوجد تَصَوُّراً لبعضهم أن بعض التصرفات هي الحق، كمن يعتقد أن تقبيل رجل أمه هو غاية البر وحده، أو أن زيارة والديه كل يوم هو البر، ومن لم يزرهما كل يوم، ففيه عقوق، وليس في نصوص الشرع أن يصل البر إلى هذه الصورة، فالخلل لديه _ إذاً - في مفهوم البر جعله يمارس بِرَّا مبالغاً فيه؛ وليس مطلوباً شرعاً، والغالب أن مثل هذا يمل من بِرِّهِ ويتركه _ ربما _ إلى العقوق، والتوسط هو الطريق الصحيح، وقد ثبت في الحديث الصحيح (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ). وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ) رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. إن بعض الناس منذ أن يتزوج إلى أن يتزوج آخر أبنائه، وهو لا يعرف راحة في حياته، فيباشر حياته معهم في كل تفاصيلها، فيتحمل كل أخطائهم، ويدخل في كل مشكلة تحدث لهم، ويدقق في كل صغيرة وكبيرة، ولا يدري أنه يستهلك صحته وجسده وروحه، وغالب هؤلاء يجد نفسه بعد الكبر وحيداً مليئاً بالأمراض لا سند له، ولا يحس به أحد، والسبب أنه قد هضم حق نفسه ولم يعط نفسه حقها من الراحة والمتعة. إن على الإنسان أن يفكر في نفسه قبل الآخرين، في تعبده قبل عبادة الآخرين، وصحته قبل صحة الآخرين، ونفسيته قبل نفسية الآخرين، وأن يترك للآخرين شيئاً من شأنهم. إن هذا الكلام لا يعني الأنانية وإهمال من يعول، وترك باب الإحسان، كلا، لكن التوازن مطلوب وتوزيع الحقوق والواجبات، بين النفس والآخرين هو الطريق السليم _ ولا غير _ للقيام بدور صحيح في هذه الحياة.