الغنيمة الباردة.. فصل الشتاء له منزلة عالية في نفوس المؤمنين، وله مكانة بارزة عند الموحدين، يفرح المؤمنون بقدومه لعدد من الأسباب، ويتغاضون عن معايبه وآثاره التي قد تؤثر على بعض الناس، ولكن ينظرون لمميزاته، ويتذكرون فضائله، ويستفيدون من خصائصه. فعندما يدخل فصل الشتاء يتذكر المؤمنون تغير الأزمان، وتقلب الليل والنهار، وتنوع فصول العام بين مناخ الحر والاعتدال، ثم البرودة والصقيع، وهذا يذكرهم بعدم ثبات الأحوال، وتقلب الأزمان، وهذه من سنن الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل إلا إذا قامت الساعة، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) الأحزاب62. ومن نعم الله تعالى علينا أن خص كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار والقيام ببعض الأعمال، وفي ذلك التنويع دفع السآمة والملل عن الإنسان، والمؤمن يتوقف مع هذه النعمة ويتدبرها حق التدبر ويشكر الله عليها. وإذا دخل برد الشتاء تذكر المسلم إخوانه الفقراء ممن لا يجدون أغطية كافية، أو ليست لديهم ملابس واقية من شدة البرد، أو لايمتلكون مساكن مناسبة، أو أطعمة كافية، فتتحرك نفس المؤمن للعطف والرحمة على الفقراء، ويقدم الصدقة، ويطعم الطعام، ويسارع للخيرات، فيكون الشتاء دافعا لنيل الحسنات، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)سورة الإنسان811. وأيضا يفرح المؤمن بنزول الأمطار التي تسقي الزروع، وتساعد في نضج الثمار، وهي نعمة من الله عز وجل، وخير للبلاد والعباد، تستحق الشكر، ويستثمر المؤمن وقت نزول المطر في الدعاء، فهو من أوقات استجابة الدعاء، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) [الفرقان:48-50]. وإن في نزول الأمطار في بعض البلاد، وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار، وأيضا عندما يتأخر نزول المطر يشعر المؤمن بضعفه وفقره وحاجته لله تعالى، ويلجأ للدعاء لله تعالى بصدق وإخلاص ولصلاة الاستسقاء. يفرح المؤمن أيضا بفصل الشتاء لأسباب أخرى، منها أن فصل الشتاء يساعد المؤمن على غض بصره، وذلك لأن النساء عموما لا تكشف مفاتنها، ولا تتعرى كما يحدث في الصيف، قال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) سورة النور30 و31. ويمكن أن تتذكر النساء، بل يتذكر جميع المؤمنين زمهرير جهنم، ويستعيذ منها، فعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبدا من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته) قالوا: وما زمهرير جهنم؟ قال: (بيت يلقى فيه الكفار فيتميز من شدة برده)رواه البيهقي وضعفه السخاوي وغيره. والأصح منه ماورد عند الشيخين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لجهنم نفسين، نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها)، وورد عن ابن عباس قال: (يستغيث أهل النار من الحر، فيغاثون برحى باردة يصدع العظام بردها، فيسألون الحر ويستغيثون بحر جهنم). لماذا الشتاء ربيع المؤمن؟ وأما السبب الرئيس لفرح المؤمن بقدوم الشتاء، فبالإضافة للأسباب السابقة، والفوائد الكثيرة نجد عددا من النصوص أشارت إلى فائدة فصل الشتاء للمؤمنين، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشتاء ربيع المؤمن) ورواه أيضا أبو نُعيم، وحسنه بعض العلماء لوجود شاهد له، وضعفه علماء آخرون، وقالوا الأصح أنه من قول الصحابي، ورواه أبو يعلى والبيهقي، وزاد فيه: (طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه) فهذه من أهم الفوائد، فليل الشتاء الطويل فيه متسع للفوز بقيام الليل والتمكن من الراحة، ونهار الشتاء قصير فيه فرصة للإكثار من صيام النوافل. قال ابن رجب (في لطائف المعارف): (وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه... و يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحصل له من جوع ولاعطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام). وإن كان الصوم صعبا بسبب الشعور بالبرد والصقيع، فيمكن أن يتغلب المسلم على ذلك بتأخير وجبة السحور والحرص عليها، وأيضا بمحاولة تدفئة نفسه بالأغطية المناسبة، أو بالطرق المعروفة. ويفرح المؤمن أيضا يقدوم الشتاء لأنه هو الغنيمة الباردة: فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة)رواه أحمد والترمذي وقال إنه مرسل، وضعفه بعض العلماء، وحسنه بعضهم. ووردت بعض الآثار عن الصحابة الكرام التي تدل على فرحهم بقدوم الشتاء (أوردها ابن رجب في لطائف المعارف): يقولُ أمير المؤمنين عمرُ رضي الله عنه: (الشتاءُ غنيمةُ العابدين) رواه أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم في الحلية، بألفاظ متقاربة، وفي إسناده ضعف. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ألا أدلكم على الغنيمة الباردة) قالوا: بلى. فيقول: (الصيام في الشتاء). ومعنى كون الشتاء غنيمة باردة: أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولاتعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفواً صفواً بغير كلفة. وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة خاصة في وقت السحر قبل الفجر، ويمكن أن يقرأ المصلي ورده كله من القرآن، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه. ومن الآثار الواردة أيضا عن الصحابة الكرام التي تدل على فرحهم بقدوم الشتاء، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: (نعم نُدمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه). وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنه كان إذا جاء الشتاء قال: (يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا، قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف)، وبكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال: (إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر). فليل الشتاء الطويل، يختلف عن ليل الصيف القصير، ولذلك يغلب النوم فيه على العبد، ولا تكاد تأخذ النفس حظها من الراحة الكافية في ليل الصيف، ويحتاج قيام الليل في الصيف إلى مجاهدة مستمرة للنفس، وقد لا يتمكن المؤمن في ليل الصيف من قيام الليل، لقصره، ولا يستطيع الفراغ من ورده من القرآن، وجاء في كلام يحيى بن معاذ رحمه الله ناصحاً المؤمنين بالانتفاع من فصل الشتاء فقال: (الليل طويل يا مسلم فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدّنسه بآثامك).