أهمية ابن خلدون وطرافة فكره، وإن تمثّلت في إيماءات فكريَّة تتخطى عصرها كالفكرة الاقتصادية، والفكرة القومية؛ فإنه كان محدّدًا وواضحًا في أفكار أخرى، ما زالت واقعًا لا يمكن إنكاره في حياتنا العربية الراهنة؛ ومن ذلك تحذيره من اشتغال رجال السلطة بالتجارة، ومنافستهم لأهل البلد وتجّاره، بما يؤدّي إلى عرقلة الاقتصاد وتدميره، وانعكاس ذلك وبالاً على الدولة نفسها في نهاية الأمر؛ يقول ابن خلدون: (إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية). ميلاد ابن خلدون ونشأته: هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون الحضرمي الإشبيلي، وُلِدَ بتونس سنة (732ه/1332م)، ويعود أصله إلى عائلة يمنية هاجرت إلى إشبيلية ولعبت دورًا كبيرًا في التاريخ العربي لهذه المدينة، وشاع ذكرها على امتداد القرن الثامن إلى أن أصبحت في القرن العاشر من أعرق العائلات بإشبيلية. ولما تمكَّن ملوك الصليبيين من السيطرة على هذه المدينة نزح أجداده إلى سبتة ثم إلى تونس. وفي كتاب (التعريف) لابن خلدون، يشير إلى أنه حفظ القرآن الكريم وألمّ بالقراءات السبع وعني بالتفسير والحديث، وتعمّق في النحو والفقه، ولم يقتصر في تلقي هذه العلوم على أبيه محمد، بل اتصل بكبار علماء تونس، ولم يبلغ الثامنة عشرة حتى أصبح طويل الباع في الفقه وعلوم الدين، كما درس علم الحديث وأحاط بأصول المنطق وآراء الفلاسفة وكتبهم (عمر فاروق الطباع؛ ابن خلدون: ص [31-32]). وبعد قضائه سنوات في خدمة حكّام إفريقية، ركب ابن خلدون البحر مهاجرًا إلى أرض أجداده (الأندلس) لينزل عند سلطان غرناطة آخر الممالك الأندلسية، وبعد سلسلة من المكايد والفتن التي حِيكت ضدّه، آثر الرجوع إلى إفريقية، واختار قلعة ابن سلامة بالجزائر ليقيم بها، ويباشر كتابة مؤلَّفه الشهير المعروف بتاريخ ابن خلدون، الذي قَدّم فيه نظريات جديدة في علمي الاجتماع والتاريخ (عمر فاروق الطباع؛ ابن خلدون: ص [33-45]). حياة ابن خلدون: عاش العلاّمة الكبير ابن خلدون في عصر مضطرب؛ تميز بالهزائم والانكسارات ليس على مستوى العالم فقط بل على مستوى الشخص أيضًا، فقد نُكِبَ غير مرة بأحبائه وأسرته، ولم يشأ له القدر أن يسكن بلدًا واحدًا، أو أن يمتهن عملاً محددًا؛ فقد تنقَّل من الأندلس حتى بلاد الشام، وشهد بنفسه تسليم غرناطة ودمشق. ورأى ابن خلدون بأمِّ عينه انهيار الحضارات، وسيطرة القوي وغطرسته عند النصر، وقد التقى ابن خلدون ملكَ قشتالة (بدرو) أثناء محاولته بسطَ نفوذه على ما تبقَّى من مدنٍ قليلة ومنعزلة للمسلمين في الأندلس، والتقى أيضًا (تيمور لنك) وهو يحاصر مدن الشام وينهبها، ثُمَّ يحرقها، أي أنه رأى الانهياراتِ في شرق العالم الإسلامي وغربه، كما رأى كيف تموت الدول وكيف تنشأ. أمّا على المستوى الشخصي فلم يهنأ بمنصب، ولم يستَطِبْ مقامًا لكثرة الحسّاد والواشين، لكنه ورغم هذه الحياة القاسية والمضطربة استطاع أن يكون مثقفَ عصره، وشاهدًا عليه، واستطاع أن ينتزع وقتًا للكتابة والتأليف، وأن يقدم للأجيال من بعده عصارة ذهنه ورحيق روحه. وظائف ابن خلدون العلمية: عمل ابن خلدون بالتدريس في بلاد المغرب، بجامعة القرويين في (فاس)، ثم في الجامع الأزهر في القاهرة، والمدرسة الظاهرية... وغيرها؛ وخلال إقامته في مصر نحوًا من ربع قرن تولَّى ابن خلدون القضاء غير مرة (عمر فاروق الطباع؛ ابن خلدون: ص [46-52]). مؤلَّفات ابن خلدون: يُعتَبَر ابن خلدون واحدًا من أعظم المفكِّرين المسلمين، وأبرز من كَتَبَ في علم التاريخ، وعنون كتابه ب (كتاب العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)، وينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: الأول: المقدِّمة؛ وفيها تأمُّلات عميقة حول الحضارة الإنسانية، والثاني: يهتمّ بتاريخ الأمم الممالك، والثالث: سيرة ابن خلدون الذاتية. وقد تُرجِمَت مقدمتُه إلى مختلف لغات العالم عدَّة مرات. كتاب (تاريخ ابن خلدون): (تاريخ ابن خلدون) هو الكتاب الذي رفعت مقدمتُه ابنَ خلدون إلى مصافِّ كبار فلاسفة العالم. وهي كما قال توينبي [مستعيرًا كلمة المقريزي] عملٌ لم يقم بمثله إنسان في أي زمان ومكان (نقلاً عن: زهير ظاظا، شبكة الوراق). وفيها أرسى قواعد فقه التاريخ وعلم العمران، وهو علمٌ أعثره عليه اللهُ كما يقول (نقلاً عن: زهير ظاظا، شبكة الوراق)، وموضوعه البحث في أسباب انهيار الدول وازدهارها (انظر: محمد أمين فرشوخ؛ موسوعة عباقرة الإسلام: [1/68-71]). وأراد أن تجد به الملوك ما يغني عن (سِرّ الأسرار) الذي ألَّفه أرسطو للإسكندر، وأنجزه أولاً في مدة خمسة أشهر، من عام (779ه) أثناء إقامته عند بني العريف في قلعة بني سلامة بوهران، ثم نقَّحه بعد ذلك، وهذَّبه، وألحق به تاريخ العرب وأخبار البربر وزناتة، وأهداه إلى المستنصر أبي العباس، الذي تولَّى إمارة تونس من سنة (772 حتى 796ه). وكانت هذه النسخة موجودة حتى عام (1858م)، فلمّا ترك تونس إلى مصر عكف على تهذيب الكتاب والزيادة عليه، زهاء عشرين سنة، فأضاف إليه الجزء الخاص بملوك العجم، وأقسامًا أخرى ألحقها بمواضعها، وأهدى هذه النسخة للسلطان برقوق؛ فنَحَلَه لقب: (ولي الدين)، (وفرغ منها سنة 797) وانتسخ منها نسخة وقفها على طلبة العلم في جامع القرويين بفاس (عبد الرحمن بدوي: مؤلفات ابن خلدون). ومن مؤلَّفاته الأخرى: شرح قصيدة البردة، تلخيص مجموعة من كتب ابن رشد، تلخيص محصّل الإمام فخر الدين الرازي، كتاب في الحساب، تعريف مفيد في المنطق، لباب المحصول في أصول الدين، شرح أرجوزة ابن الخطيب، شفاء السائل لتهذيب المسائل (عمر فاروق الطباع؛ ابن خلدون: ص [54-56]). أفكار ابن خلدون: أشار باحثون عِدَّة في فكر ابن خلدون إلى ريادته في الإشارة إلى مسألتين مهمتين تنبَّه إليهما الفكر الحديث، وهما: أولاً: أن القيمة الاقتصادية للسلعة يحددها الجهد الإنساني العمالي المبذول فيها، وليس مجرد قيمتها المادية. وهي مسألة انبنى عليها الفكر الاجتماعي الحديث - الاشتراكي بخاصة - في دعوته إلى إنصاف العمال الذين يضيف جهدهم إلى قيمة السلعة، وهي قيمة يستفيد منها الرأسماليون عادة. والواقع أنه لم يصل إلى هذه الدعوة الصريحة لكنه اقترب كثيرًا من مضمونها الفكري [3]. ثانيًا: أومأ ابن خلدون إلى شيء قريب من الفكرة القومية الجامعة، عندما تحدث عن (دولة العرب)، ثم (دولة الفرس)، ثم (دولة الترك) في سياق التاريخ الإسلامي. صحيح أنه بنى فكره في تفسير الاجتماع والتاريخ لدى العرب على (العصبية القبلية) - وهو واقع لا يستطيع أي مفكر حقيقي تجاهله - لكنه أشار أيضًا إلى أن تلك العصائب القبلية إذا تحالفت، خاصة في ظل (دعوة دينية)، تستطيع أن تؤسس تحالفًا أوسع بينها يستند إلى حقيقة كونها منتمية إلى (قوم) متميز من الأقوام. إلا أن أهمية ابن خلدون وطرافة فكره، وإن تمثّلت في إيماءات فكريَّة تتخطى عصرها كالفكرة الاقتصادية، والفكرة القومية؛ فإنه كان محدّدًا وواضحًا في أفكار أخرى، ما زالت واقعًا لا يمكن إنكاره في حياتنا العربية الراهنة؛ ومن ذلك تحذيره من اشتغال رجال السلطة بالتجارة، ومنافستهم لأهل البلد وتجّاره، بما يؤدّي إلى عرقلة الاقتصاد وتدميره، وانعكاس ذلك وبالاً على الدولة نفسها في نهاية الأمر؛ يقول ابن خلدون: (إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية). كما لَخَّصَ رؤيته لآثار الاستبداد والتسلط بمقولته: (الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران)، ونبه إلى أن كثرة العصبيات ينذر بزوال الدولة: (إن الأوطان الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة). وبالرغم من أنَّ عصر ابن خلدون كان عصرًا معاديًا للفلسفة في المجتمع الإسلامي، وهو ما ينعكس في الفصل الذي عنوانه: (في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها)، فقد حوّل ابن خلدون عمل العقل من الانشغال بالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) إلى إعماله في شؤون المجتمع والتاريخ والعلم، أي إنزاله من السماء، فيما يتجاوزه من غيب، إلى واقع الأرض، وما فيها من شواهد ومشاهدة. ومن منطلق عقلانيته، انتقد السحر والطلسمات، وكتب في إبطال صناعة التنجيم وضعف مداركها، وفساد غايتها، وعرض لعلم المنطق بحياد موضوعي ولم يهاجمه، كما أنّ نقده للفلسفة الميتافيزيقية لم يصل لديه إلى حَدِّ تحريمها، وإنما اكتفى بتنبيه من يريد الاطلاع عليها إلى الإلمام بعلوم (الملة)من فقه وشرعيات. إن التصالح الذي أقامه ابن خلدون بين نظرته المادية ونظرته الإيمانية شمل الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية؛ فقد حاول بكل قواه إظهار التكامل بين ما هو رُوحي وما هو مادي، بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي، بين ما تقتضيه طبائع العمران، وبين ما تقرره المشيئة الإلهية.