44 سنة على تأميم المحروقات تمضي اليوم 44 سنة كاملة على اليوم الذي دوّت فيه في سماء الجزائر عبارة رئيسها الرّاحل هواري بومدين الذي أعلن باسم الجزائريين جميعا عن قرار تأميم قطاع المحروقات وتحريره من سطوة الشركات الفرنسية التي ظلّت تمتصّ دماء الجزائريين بعد الاستقلال، القرار الذي بدأ الرئيس بومدين الإعلان عنه بكلمة (قرّرنا) لم يكن بسيطا، بل جاء بعد نضال طويل ووسط ضغوط فرنسية شديدة. من الغريب أن يرتبط يوم 24 فيفري 2015 بمظاهرات دعت تنسيقية الانتقال الديمقراطي إلى القيام بها عبر التراب الوطني، وهو ما جعل معارضي هذا المسعى يعتبرونه محاولة لركوب التاريخ لتحقيق أهداف سياسية مشبوهة تحت غطاء التضامن مع رافضي استغلال الغاز الصخري. وبعيدا عن الحسابات السياسية سيبقى يوم الرابع والعشرين فيفري راسخا في أذهان الجزائريين، ليس كيوم لمظاهرات تنسيقية الانتقال الديمقراطي، بل كيوم ل (الاستقلال الاقتصادي) الذي سمح للجزائر بأن تستعيد السيادة ولو نسبيا على ثرواتها النفطية التي كانت وما تزال المصدر الأساسي لدخلها وقوت أبنائها. قصّة قرار.. أدّى إصرار فرنسا على رفض طلب الجزائر برفع الجباية البترولية إلى تسريع قرار السلطات الجزائرية بتأميم يوم 24 فيفري 1971 الشركات البترولية الفرنسية التي كانت تستغلّ الحقول الأولى للمحروقات المكتشفة في الصحراء، قرار مضى على اتّخاذه 44 سنة، تعود (أخبار اليوم) ل (تفتّش) في حيثياته وخلفياته. افتتحت يوم 24 نوفمبر 1969 بالجزائر العاصمة المفاوضات الأولى حول مراجعة السعر الجبائي المفروض على الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر بموجب الاتّفاق النفطي الموقّع يوم 29 جويلية 1965 بطلب من الجزائر التي اعتمدت على المادة 27 من الاتّفاق (سنة 1965)، والتي تنصّ على أن الحكومتين ستدرسان خلال سنة 1969 مراجعة السعر الجبائي. واعتبر رئيس المفاوضين السيّد بلعيد عبد السلام الذي كان آنذاك وزيرا للطاقة والصناعة أنه إذا كان اتّفاق 1965 قد نجح في تحرير الدولة الجزائرية من الحلية التي كانت تثقلها بفعل تأثيرات اتّفاقيات إيفيان فقد قدّم حينها جباية ميسّرة للشركات الفرنسية أملا في إنعاش التنقيب في الجزائر. وذكر السيّد بلعيد عبد السلام في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية أن المفاوضات حول هذا الاتّفاق التي بدأت سنة 1964 تحت رعاية الرئيس أحمد بن بلّة، والتي اِنتهت خلال رئاسة هواري بومدين للبلد قرّرت سعرا جبائيا بقيمة 08ر2 دولار إلى غاية ميناء الشحن ببجاية، وهذا يعتبر تنازلا لهذه الشركات من أجل تعبئة وسائلها المالية قصد تعزيز الاستكشاف. ومن الجانب الجزائري تأخّر إنعاش الاستكشاف الذي انتظرته الجمعية التعاونية الجزائرية-الفرنسية (أسكوب) التي أُنشئت في إطار اتّفاق 1965، والتي أوكلت لها المناطق الغنية لحاسي مسعود وحاسي الرمل. تعنّت فرنسي.. تعلّقت أهمّ مراجعة للاتّفاق ليس فقط بالسعر الجبائي المحدّد لحساب الدخل المفروض للشركات البترولية الفرنسية ولكن أيضا بتحويل وضعية هذه الأخيرة إلى شركات تكون للجزائر فيها أغلبية رأس المال وهذا يمكّنها من مراقبة تسييرها، وبالتالي عزمت الجزائر على فرض سعر جبائي جديد يساوي 85ر2 دولار للبرميل. وترأس أوّل المفاوضات التي جرت في نوفمبر 1969 بالجزائر بلعيد عبد السلام الذي كان حينها وزيرا للطاقة والصناعة عن الجانب الجزائري وجون بيار بروني مدير الشؤون الاجتماعية والمالية بوزارة الشؤون الخارجية الفرنسية عن الجانب الفرنسي. ومع بداية المفاوضات لم يبد الفرنسيون أيّ استعداد للتحرّك في اتجاه الطلبات الجزائرية (الجبائية) التي أعدّت على أسس متينة من قِبل سوناطراك التي أصبحت متعاملا في السوق العالمية ولديها المعطيات التي كانت متداولة في السوق الدولية بعكس محادثات 1965، حيث لم يكن بحوزة المفاوضين الجزائريين سوى شهاداتهم وروحهم الوطنية. وما زاد في تعزيز الموقف الجزائري للسير قُدما نحو استرجاع مواردها الطبيعية هو كون المفاوضات جرت في سياق النجاح الذي حصلت عليه ليبيا بخصوص رفع الجباية المفروضة على الشركات الدولية العاملة في ترابها وقرارات منظّمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبيب) بكاراكاس التي فرضت هذه الزيادة. وأدّى اللّقاء الأخير والمخيّب للآمال مع الوفد الفرنسي في جوان 1970 إلى خروج الجزائر عن طورها ووضعت في 20 جويلية من نفس السنة قرارها الأحادي الطرف بفرض سعر جبائي جديد على الشركات الفرنسية. تسييس المفاوضات القضية التي ظلّت حتى ذلك الحين في إطار مفاوضات اقتصادية تحوّلت إلى قضية سياسية عندما تكفّل الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو رسميا بالملف واتّصل بالرئيس هواري بومدين عن طريق رضا مالك الذي كان حينها سفيرا للجزائر بباريس. لقد تمّ تحويل المفاوضات إلى الإطار السياسي بما أنها كانت من صلاحيات رئيسي الدولتين، وقد تمّ استئنافها على مستوى رئيس الجمهورية هواري بومدين ممثّلا بالسيّد عبد العزيز بوتفليقة الذي كان وزيرا للشؤون الخارجية عن الجانب الجزائري وفرانسوا كزافيي اورتولي وزير الصناعة الفرنسي. في هذا الصدد أوضح السيّد بلعيد عبد السلام أن الرئيس الفرنسي اِقترح على نظيره الجزائري قَبول وقف تطبيق القرار المعلن في حقّ الشركات الفرنسية، وبالمقابل فتح مسبق للمفاوضات حول مراجعة شاملة لاتّفاق 1965 فيما يخص المادة 52 التي تنصّ على إمكانية مراجعة الوثيقة في مجملها بعد خمس سنوات من تطبيقها، أي سنة 1971. انطلقت المفاوضات الرسمية التي كانت تحت رعاية الرئيسين الجزائري والفرنسي بتاريخ 28 سبتمبر 1970 وتواصلت خلال الأسابيع الأولى من سنة 1971. وظلّ الجانب الفرنسي على نفس الإصرار بخصوص مسألة إعطاء الجزائر أغلبية رأس مال الشركات الاحتكارية الفرنسية وحول الرفع من السعر الجبائي. في هذا السياق، قدّم المفاوضون الفرنسيون -حسب السيّد بلعيد عبد السلام- تفسيرا خاطئا عن معطيات السوق الدولية للبترول من أجل حرمان الجزائر من حقّها في تحسين مواردها المالية التي تستحقّها من استغلال نفطها. كما لاحظ المفاوضون الجزائريون تشنّجا في مواقف المفاوضين الفرنسيين، ممّا لم يترك أيّ انفتاح على المطالب الجزائرية. إلاّ أن السيّد بوتفليقة أكّد لمفاوضيه على إرادة الحكومة الجزائرية في تحقيق أهدافها بشتى الوسائل المتاحة لها، وأنه في حال لم يتمّ التوصّل إلى حلّ مناسب على طاولة المفاوضات فإن الجزائر ستتبنّى وسائل أخرى لتحقيق الخيارات النابعة عن توجّهات الثورة. قرّرنا.. جرى آخر لقاء بين وفدي البلدين في ال 27 ديسمبر 1970، حيث بقيت فرنسا متمسّكة بمواقفها. ومن أجل حمل الجزائر على التخلّي عن مطلب مراقبة الشركات الفرنسية طرح المفاوضون الفرنسيون مقترحا أخيرا تمثّل في أن توضع تحت تصرّف الجزائر حصص من إنتاجها البترولي حتى تسوّقه وحدها في السوق الدولية. كما طالب الفرنسيون فيما بعد بإلغاء المفاوضات في انتظار قرارات منظّمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبيك) بطهران مع مندوبين من كبريات الشركات البترولية الدولية، وهو اللّقاء الذي كان من المنتظر أن يحسم في العمل الذي قرّرته المنظّمة في كاراكاس بخصوص مطالب البلدان المنتجة حول الرفع من الجباية البترولية. وبرفضهم مواصلة المفاوضات يكون المفاوضون الفرنسيون قد خالفوا قرار رئيسهم الذي أوصى بتلك المفاوضات. لقد كان الفرنسيون في واقع الأمر يأملون في أن تكون نتائج اجتماع طهران أكثر إيجابية لأطماعهم، إلاّ أن قرارات طهران كانت مخيّبة لآمالهم بما أن الشركات البترولية الكبرى الأنجلوساكسونية قدّمت بعض التنازلات لشعوب العالم الثالث والعالم العربي من خلال الموافقة على الرفع من الجباية البترولية التي تدفعها لتلك البلدان. أمّا الجزائر واستباقا منها للمأزق الذي كانت ستؤول إليه المفاوضات قرّرت اللّجوء إلى الخيار الوحيد المتمثّل في التأميم مع كلّ النتائج الاقتصادية والدبلوماسية التي قد تنجرّ عنه. في هذا الصدد صرّح الرئيس بومدين خلال مجلس للوزراء بأنه إذا لم تنجح المفاوضات في 31 ديسمبر 1970 فإنه سيشرع في إصدار إجراءات التأميم. وفي الجزائر العاصمة كانت جميع الإجراءات للإعلان عن هذا القرار التاريخي جاهزة في 31 ديسمبر 1970 كما أقرّها الرئيس بومدين صاحب مقولة (قرّرنا..). لقد كانت النصوص الخاصّة بالتأميم التي أشرف على صياغتها الأستاذ جمال لخضاري جاهزة وتمّ تشكيل مجموعات الإطارات والتقنيين الذين سيقومون بمجرّد الإعلان عن الإجراء بتولّي تسيير مقرّات الشركات الفرنسية والمركبات البترولية. بعد أن استشار وزيري الشؤون الخارجية والداخلية السيّدين عبد العزيز بوتفليقة وأحمد مدغري اتّخذ الرئيس هواري بومدين قرار التأميم في ال24 فيفري 1971 بمناسبة ذكرى إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين. أعلن الرئيس في دار الشعب مقرّ المركزية النقابية أخذ الجزائر لأغلبية رأس مال الشركات الاحتكارية الفرنسية، وهو العمل السيادي الذي جاء ليكمل تأميم الشركات الأمريكية الذي قامت به الجزائر سنة 1969. قبل نهاية مساء يوم ال 24 فيفري انتقلت مقرّات الشركات المؤمّمة إلى الفِرق الجزائرية التي عيّنتها وزارة الصناعة والطاقة، وبالتالي فقد مكّنت عملية التأميم الجزائر من امتلاك 51 بالمائة من رأس مال الشركات الفرنسية التي لم تعد تمتلك إلاّ 49 بالمائة. كما تمّ تحديد السعر الجبائي الجديد من خلال مرسوم وقّعه الرئيس بومدين بتاريخ 13 أفريل، حيث أصبح يقدّر ب 60ر3 دولارا للبرميل.