بقلم: نور الدين مباركي لمدة عقد من الزمان تشكل حركة الإدارة العامة الجديدة بلا شك النموذج السائد من حيث تحول الدولة. حيث كانت الأزمة المالية استياء المواطن من الخدمات الإدارية والتطور التكنولوجي حجج كافية للتأكيد علة ضرورة إعادة النظر وهيكلة الإدارة العامة. لقد اجتاحت موجة إصلاحات القطاع العام العالم خلال نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي.وتسعى الإدارة العامة الجديدة بدرجة أولى إلى تعزيز كفاءة القطاع العام.حيث أصبحت الإدارة العامة الجديدة واسعة الانتشار في الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي ولو أخذنا مثال انجلترا حيث عندما تولت مارغريت تاتشر رئاسة الوزارة في بريطانيا أحدثت ثورة في تحديث الإدارة العامة ووضعتها على رأس أولوياتها الحكومية وجعلتها المخطط والمنفذ للسياسات العامة للدولة وذلك من النواحي التالية: الهياكل التنظيمية / طرق الأداء / الخدمة المدنية / الموارد البشرية / التخطيط والإدارة المالية / الرقابة وتقييم الأداء / الإنفاق الحكومي. ولو أخذنا بمثال آخر فلنرى تلك الهيئات العامة الكبيرة في كندا و كيبك التي تبنت هذا الشكل من تحديث الخدمة العامة (كشرطة الخيالة الكندية الملكية إدارة الدفاع تنمية الموارد البشرية.. وما إلى ذلك) وهي الآن جزء رسمي من قانون الإدارة العامة الجديد في كيبك. يتم تعريف هذا الشكل الجديد من الإدارة من خلال مرونة أكبر في تنظيم العمل (على عكس التسلسلات السلمية الهرمية التقليدية) بالأولوية الممنوحة ل المواطن ورضاه مع التركيز على النتائج والمساءلة وزيادة تمكين الموظفين وتكوينهم كل ذلك لغرض تحقيق المثل العليا المقدمة في بعض الأحيان على أنها المثل الأخلاقية الكفاءة والفعالية والأداء والمردودية. كما أن الإدارة العامة الجديدة تتميز بعدة سمات وهي: القيادة التشاركية التركيز على المواطن العمل الجماعي والتوجه نحو التغيير والتحديث اللامركزية خاصة في القرارات تحقيق الكفاءة والفعالية وضع معايير واضحة لقياس ورقابة الأداء وكذلك إطلاق حرية المديرين في الإدارة والتسيير وفق ضوابط. أخلاقيات الوظيفة العامة تتمثل إحدى خصائص الآلية الوقائية في الأهمية التي توليها بعض البلدان لموضوع الأخلاقيات والقيم والمبادئ. تكمن جذور هذا الاهتمام في حقيقة أن هذه الحركة التحديثية العالمية لها أصولها في القطاع الخاص _ أي مستمدة من هدا القطاع من الواضح أنها غريبة في مجال أخلاقيات الوظيفة العامة. بينما حاولت بعض الدول بشكل كبير تكرار ووضع أطر نموذج القطاع الخاص في إدارتها العامة بغض النظر عما يحدث للقيم الأخلاقية العامة المشتركة للدولة (العدالة المساواة الحرية التضامن.. إلخ) مثل بريطانيا أو نيوزيلندا يحاول آخرون دمج مبادئ الآلية الوقائية مع أخلاقيات الوظيفة العامة مثل بلجيكا أو كندا ويعرضون أنفسهم لبعض المعضلات والمشاكل. إن تقرير بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أكد على تعزيز أخلاقيات الوظيفة العامة والذي يجمع الاستراتيجيات الأخلاقية لبلدان المنظمة هو بحد ذاته رابط مباشر بين هذا الإصلاح والحاجة إلى تجديد التفكير في الأخلاقيات الإدارية: يقوم الموظفون العموميون بمهامهم في بيئة سريعة التغير بما في ذلك القيود المفروضة على الموارد والمطالب الجديدة من المواطنين وزيادة التدقيق العام. وبالتالي فهي ملزمة بالابتكار والإجتهاد في إدارة العمل العام. ومع ذلك فقد كان لهذه الإصلاحات عواقب غير مقصودة على عالمية قيم الخدمة العامة التقليدية وقواعدها. بمعنى آخر يجب أن تتطور البنية الأساسية للأخلاقيات من أجل ضمان جودة الخدمة العامة وضمان تحقيق المهمة الأساسية للوظيفة العامة أي خدمة المصلحة العامة. وراء هذه الاحتياطات الخطابية يمكننا أن نرى بسهولة المخاوف التي يثيرها في بعض الأحيان فشل الإدارة الجديدة والفكر الجديد في الخدمة العامة المكرس ليس لدافع الربح ولكن للصالح العام. تبرز أهمية القيم في هذه الاستراتيجيات الأخلاقية الجديدة إلى الحد الذي يعتبر فيه تقرير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أن تأكيد القيم الأساسية يوفر الأساس لعمل الوظيفة العامة في بلدان العالم . يمكن تعريف القيمة على أنها القناعة المطلقة بأن وضعًا معينًا من السلوك أو نوع معين من الوجود مفضلًا شخصيًا أو اجتماعيًا على طريقة السلوك أو نوع معاكس من الوجود .. ومع ذلك فإن الوقوع ضمن ترتيب المعتقدات أوالتطلعات والمثل العليا والقيم يخضع حتماً للنقاش والمناقشة والتفسير. من وجهة النظر هذه يمكن افتراض أنها تلتمس بشكل مباشر أكثر من مدونات الأخلاق قدرة الالتزام والحكم الأخلاقي للأفراد وهذا يعني قدرتهم على صياغة التفضيلات والتوجهات لتقييمها للسؤال عنها لمواجهتها مع الآخرين لتعديلها باختصار لإدماج وفرض الأخلاقيات في الحوار العام. قيّم.. اللجوء إلى القيّم التي تكمن وراء الأخلاق: في مظهرها أو تطورها أو في التنافس بين القيم الكلاسيكية والقيم الحالية الحديثة التي تؤدي إلى معضلات ومشاكل العمل. لذلك يبدو الاختيار السياسي لإسناد الأخلاقيات الجديدة على القيم بداهة أكثر احتراماً مما كانت عليه البيروقراطية المنطقية لقدرة موظفي الإدارة على تحليل القيم التي يجب عليهم تطبيقها وتنفيذها. في محاولة واضحة لإعادة تقييم الموظفين ومهاراتهم وإبداعهم يقترح هذا التوجه التركيز بشكل أكبر على صفاتهم الشخصية لا سيما على قدرتهم على استيعاب (تحليل وفهم وتطبيق) القيم فعل القيم الأخلاقية المشتركة أو القيم التنظيمية. لذلك يجب أن يشجع هذا النهج مديري أي إدارة عامة على عدم اعتبار موظفيهم آلات لتطبيق التوجيهات دون التفكير أو الاعتماد فقط على التفكير الفني ولكن معاملتهم على أنهم أشخاص قادرين على الحكم الأخلاقي المستنير والإبداع والابتكار. والذي يشجع على تمكين الموظفين: سيتعين على المديرين تفويض المزيد من المسؤوليات للموظفين على سبيل المثال الموظفون في المراكز الأمامية الذين هم على اتصال مباشر مع المواطنين بينما في الوضع القديم للإدارة كان على هؤلاء الموظفين فقط تطبيق القواعد المحددة من قبل السلطة الإدارية دون أن يتمكنوا من المضي قدمًا بمفردهم. حتى التحسينات المقترحة من خلال تجربتهم اليومية. أداء مثل هذا التفويض يتطلب وجود ثقة في نوعية الحكم والمبادرة من هؤلاء الموظفين. يتم تحديد هذه الحركة الأساسية من طرف الإدارة والمتمثلة في إعادة اكتشاف الأشخاص في الخدمة العامة فضلاً عن جودة القيادة والإدارة المتمركزة على الأفراد. يجب أن يتعلم كبار الموظفين أي المسؤولين العموميين كيفية الإدارة نزولًا وليس تصاعديًا وإظهار القيادة والمثال لموظفيهم. حيث تلعب القيم المتعلقة بالأشخاص دورًا مهمًا في إطلاق مجموعة واسعة من القيم في الوظيفة العامة. خيار أخلاقي ولكن هل من المؤكد أن الاهتمام الحالي بمفردات القيم في عالم الأخلاقيات الإدارية هو فقط نتيجة لنية سياسية لإعادة تقييم الأشخاص ؟ الانعكاس التالي يضعنا على مسار آخر: القيمة الكاملة لمفهوم القيمة هي أنه يجعل من الممكن تقليل أهمية فكرة الجزاء في شرح الإجراء إلى حد كبير. إنه يحول التركيز نحو عناصر جذابة مرغوب فيها لطرق معينة من الوجود للعمل والتفكير والشعور حتى لو كان هذا الجذب هو فقط تأثير التعلم المسبق من خلال المكافآت والعقوبات. وبعبارة أخرى فإن النهج القائم على القيم والطموح هو تشجيع السلوك المناسب من خلال التحفيزات بدلاً من المعاقبة. وبالتالي فإن نهج القيم ليس مجرد موقف أخلاقي جديد بل هو خيار أخلاقي للإدارات لإعادة تقييم الحكم الأخلاقي للموظفين: إنه في الوقت نفسه استراتيجية إدارية تتوافق مع المتطلبات الآلية الوقائية لا سيما مع مبدأ تخفيف الضوابط الخارجية البيروقراطية. الفكرة هي أنه إذا استوعب موظفو الإدارة العمومية أو أدمجوا قيم الإدارة التي يعملون فيها فسوف يطبقونها تلقائيًا دون حتى التفكير في الأمر وخاصة دون الحاجة إلى تهديدهم أو معاقبتهم. لن يقتصر نجاح هذا الاستيعاب على تحرير النشاط الإداري جزئيًا أي تخفيف اللوائح والقوانين التي تحكم عمل الموظفين العموميين بل سيشجع المسؤولين والرؤساء على منح المزيد من الحرية والمرونة لمرؤوسيهم: توصي الآلية الوقائية بخفض عدد القواعد بحيث يكون المسؤولون الذين يتمتعون بحرية واستقلالية أكبر في العمل أكثر مسؤولية وضمانا للنتيجة. وفقا لماكس ويبر يجب أن تكون الإدارة في خدمة الحكومة وبالتالي فهي غير سياسية وإلا فلن تعمل بشكل صحيح. بالنسبة ل ويبر يتم تحديد المهام مسبقًا بنصوص معروفة ومعلومة لدى الجميع على سبيل المثال القوانين واللوائح هناك تسلسل هرمي للوظائف لضمان السيطرة على جميع المستويات والقواعد والقرارات لضمان المعاملة المتساوية. باختصار إن تركيز الخطاب الأخلاقي على القيم له العديد من المزايا من وجهة نظر إدخال الآلية الوقائية في الإدارة حيث يتم تقديمه كطريق ووسيلة التي من المحتمل أن تجعل الموظفون العموميون أكثر استقلالية غير تلك القواعد والتوجيهات والعقوبات التي تزيد من حصرهم في مجال محدد والتضييق عليهم كما ان الخطاب الاخلاقي للقيم يدفعهم إلى التفكير بمسؤوليتهم و الاهتمامً بنتائج عملهم وبالتالي أكثر إبداعًا وإنتاجية. تشير بعض الدراسات إلى المكان الاستراتيجي لهذا الاستخدام للقيم: حيث كلما خففت الدولة من إطارها المعياري (أي لوائحها وضوابطها الإجرائيًة) كلما ركزت عملية مساءلة أصحاب المناصب والوظائف العامة على قيم مفهومة جيدًا ومشتركة معهم. رقابة صارمة كما تظهر النتائج أنه على عكس ما يدعي أنصار الإدارة العامة الجديدة فإن المديرين لديهم سلطة تقديرية ضئيلة أو معدومة خاصة في الإدارة المالية. تخضع إجراءاتهم وقراراتهم لرقابة صارمة من قبل آليات التحكم الهرمية والمتمثلة في الهيئات والسلطات المعنية بالمراقبة أو عبر نظام الكمبيوتر في البلدان المتطورة والإدارات العصرية ذات التكنولوجيا المتطورة. يفسر هذا الوضع جزئياً السبب في أن اعتماد المبادئ العامة وبناء بنية أساسية أخلاقية لا يزالان في طي النسيان أو بصفة أخرى الإهمال. من الواضح أن أحد عواقب هذا الوضع الجديد هو أهمية تحديد القيم التي يجب على موظفي الخدمة الخدمة العامة استيعابها. هذه الخطوة هي الآن جزء من عملية تنفيذ الآلية الوقائية في شكل إعداد بيان المهمة والرؤية والقيم للإدارة. إذا كان إعداد هذا البيان يستند إلى مبدأ القيادة المشتركة أو التشاركية أي بالتشاور مع جميع أعضاء الإدارة المعنية وإذا تم الأخذ بعين الاعتبار الخصائص المحددة للإدارة فمن الأرجح أن يدمج الموظفون ويطبقون هذه القيم في حياتهم المهنية أكثر مما إذا فرض هذا البيان عليهم من قبل الرؤساء نزولا من الأعلى إلى الأسفل. كما هو الحال بالنسبة للمدونات الأخلاقية التقليدية. ومع ذلك فإن العديد من الإدارات تحجم عن أخذ هذه المشاورة مفضلة تعيين المهمة للخبراء أو القادة وتعريض أنفسهم مرة أخرى للفجوات التي لوحظت وسجلت بالفعل. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذا العمل يجب أن يكون مستمرًا : تطور الممارسات وتراكم المعرفة والخبرة وتحولات ظروف عمل المنظمة كل هذا يجعل التفكير في أن تكون رؤية الإدارة وقيمها حية وديناميكية وألا تُختم وتغلق مرة واحدة وإلى الأبد كما هو الحال مع مدونات الأخلاقيات المهنية. إن هذه الخطابات الأخلاقية التنظيمية تنتج أحيانًا تأثيرات غريبة مع أصداء سياسية. على سبيل المثال قد تؤدي إلى إضفاء الطابع الأخلاقي على بعض القيم التي ليست قيمًا أخلاقية مما يجعلها تتعايش في البيان مع القيم الأخلاقية التقليدية: على سبيل المثال النزاهة والخدمة للمواطنين. على الرغم من استنادها إلى المثل الأخلاقية المتمثلة في وصول وترابط علاقةالمواطنين بالإدارة فإن فكرة الخدمة هي أولوية إدارية فضلاً عن الكفاءة والفعالية والاقتصاد وليست قيمة أخلاقية. ينطبق نفس النوع من التفكير على مفهوم الاحترافية في قلب حجة البيروقراطية العقلانية. في الواقع يميل الاحتراف إلى التحول تحت ضغط الإدارة العامة الجديدة إلى الاقتراب من فكرة الأداء (التي تشمل روح الابتكار والإبداع والجرأة والاستقلال الذاتي والسرعة) والابتعاد عن المثل الأعلى للكفاءة (الدراية والمعرفة) كجزء من التطبيق الضميري للمبادئ التوجيهية والتنظيمية. إذا لم يكن لأي من صفات الاحتراف الجديد أي أهمية أخلاقية فإن ذكر هذه الفضيلة المطلوبة من الموظفين العموميين المقربين من بيان القيم الأخلاقية الأخرى قد يكون له أثر إعطاء نكهة وعطر أخلاقي لهذا الاحتراف الجديد عندما يكون في الواقع قد يتعارض مع بعض المتطلبات الأخلاقية الأساسية.