بقلم: الطيب بن إبراهيم* في الحلقة الماضية تحدثنا عن أذان الإرسالية وعن نصوصه وزمانه ومكانه وكيف كان يمثل تحديا ويتطلب جرأة ومع ذلك هو أقل صعوبة من موضوع حلقة اليوم وهو المؤذن فنصوص أذان الكنيسة يسهل الحصول عليها ووضعها سواء من طرف مستشرِقَيْ الإرسالية روني فوايوم و لويس غاردي أو من طرف منظري الإرسالية خارج الجزائر من عرب وعجم لكن وجود المؤذن الذي يحسن الأداء باللغة العربية صوتا ولحنا عدة مرات في اليوم ليُسمِعه للسكان فلا يمكن الحصول عليه بسهولة لأن القوم عجم لا يتكلمون اللغة العربية بطلاقة رغم أن من بينهم من يقرؤها ويكتبها بالإضافة لعددهم المحدود جدا فلو أذَّنوا بين قومهم لأبناء جلدتهم لسهُل عليهم الأمر. فالمؤذن هنا لا يمكن إيجاره كالبنائين ولا يمكن استعارته كالأواني والأمتعة فالأزمة كانت أزمة لغة رغم أن نزلاء الإرسالية كانوا يدرسون اللغة العربية العامية في الأبيض لمدة ساعة يوميا. *المؤذن الرئيسي ونائبه كان القس روني فوايوم voillaume René رئيس الإرسالية يجيد العربية نطقا وقراءة وكتابة تكوّن في تونس وإيطاليا وعند الآباء البيض بالحراش وهو صاحب مقولة : الجرس لا يدق في ليل أو نهار في الأبيض أمام ضريح سيدي الشيخ !! وهو صاحب فكرة الأذان وواضع نصوصه وصاحب مشروع بناء المنارة وهو صاحب التجربة الأولى ( المؤذن ) في تاريخه وتاريخ الكنيسة وهو من صعد منارة الكنيسة منتصف ليل يوم الأربعاء 3 أكتوبر سنة 1934 وقام بأول أذان كنسي. منذ ذلك اليوم أصبح المؤذن الأول والرسمي للكنيسة قبل بناء المنارة وبعد بنائها فهو أول قِسّ صعد المئذنة لأول مرة ونادى للصلاة باللغة العربية في الكنيسة وأصبح ينادي للصلاة في كل الأوقات المخصصة لها وهي ست مرات في اليوم ولم يكن له نص أذان واحد ثابت في كل الأوقات بل كان نص الأذان يختلف باختلاف أوقات الصلاة ومع ذلك اجتهد المؤذن في محاولاته لتقليد أذان المسلمين نصا ولحنا حتى أطلق عليه وصف المؤذن من قبل مواطنيه واتباع نهجه. فكما أطلق أصحاب أول تجربة تنصيرية في التاريخ في مدينة الأبيض سيدي الشيخ اسم أذان على ندائهم للصلاة أطلقوا على صاحب النداء اسم مؤذن وهذا المؤذن كان أيضا في مناسبات الاحتفال بعيد الميلاد ينشد باللغة العربية ترانيم المناسبة من أعلى المنارة المئذنة حسب رواية المستشرق الأب جياكوبيتي: A noël sur la terrasse le muezzin catholique un prête a crié les louanges de sidna Aissa et raconté sa naissance ... وإذا كان رئيس الإرسالية يحسن أداء أذانه فالمشكلة التي كانت تؤرقه هي من يخلفه أثناء غيابه وهو المعروف بكثرة تحركاته وسفره خاصة أن عدد أعضاء إرساليته محدود جدا فالمشكلة ليس في من يخلفه في تدبير شؤون الإرسالية الكَنَسِيَّة والإدارية وهو القس مارسال بوشي الذي كان يطلق عليه رئيسه وصف خليفتي khalifa Mon كما يقول العرب على حد تعبيره وإذا كان هذا الخليفة يستطيع أن يخلف رئيسه في كل شيء إداري فلم يستطع أن يخلفه في أداء النداء للصلاة الأذان من على أعلى المنارة لذا كان رئيس الإرسالية يحرص كل الحرص على رجل آخر يخلفه في أداء أذان صحيح حتى لا يعطي فرصة للسكان ليضحكوا عليه حسب تعبيره وأثناء غياب المؤذن الرئيسي الأب روني فوايوم كان الشخص الوحيد الذي يخلفه في أداء الأذان هو زميله في الإرسالية مارك جيران Gérin Marc وهو أحد القساوسة الخمسة المؤسسين للإرسالية والذي توفى بالأبيض سيدي الشيخ بتاريخ 27 أفريل سنة 1945م ودفن بحديقة الإرسالية . كان رئيس الإرسالية فوايوم يعتمد على هذين الخليفتين سواء في غيابه القصير لعدة أيام أو الطويل لعدة أشهر كما حدث أثناء غيابه عن إرساليته لمدة أكثر من ثلاثة أشهر بداية من تاريخ 8 جانفي/ يناير سنة 1935 إلى غاية يوم 16 افريل 1935 فخلفه في أمور التسيير الإداري القس مارسال بوشي وخلفه في الأذان القس مارك جيران. *طبيعة الأذان بمجرد سماع مؤذن يؤذن بمنارة كنيسة قد لا يصدق السامع ما يسمع ولكن صحراء الجزائر كانت تتسع لكل التجارب في عهد الاحتلال سواء التجارب النووية في رقان أو تجارب أذان مؤذن كنيسة الأبيض سيدي الشيخ ومع ذلك لم تكن التجربة سهلة فالأذان هو ليس حديثا محليا محصورا في إحدى الغرف أو القاعات يتم تداوله بين شخصين أو أكثر أو حديثا يتم في زاوية أحد المقاهي فهو نداء عربي يلقى بأعلى صوت من أعلى المنارة ليصل إلى أبعد المناطق ويسمعه كل السكان. فالمشكلة هنا لا تقتصر على فهم اللغة والحديث بها فقط بل في قوة النطق بها والتحكم في مخارج كلماتها وحروفها وألحانها بين قومها والصدق والإيمان بما يقوله المؤذن لذا أثناء أداء الأذان يَتبيَّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويتبين الأذان الطبيعي من الأذان المزيف سواء تزييف في الشخص الفرنسي أو تزييف في المكان الكنسي أو العقيدة المسيحية؟!!. هناك فرق بين المؤذن المسلم فحتى لو لم يكن عربيا فهو يؤذن بلغة كتابه السماوي الذي يصلي به يوميا بكل عفوية وأذانه نابع من عقيدته ولا ينظر له باستغراب وفرق بين من هو غريب عن اللغة والديار والعقيدة فهو لا يعرف لغة أذانه والتحكم فيها وأذانه دخيل وغريب عن عقيدته وكنيسته فكيف له أن يرفع صوته ليُسمِعه للسكان بلغتهم العربية وبلحن وصوت لا يحسنه ويدعو فيه للصلاة وهو يعلم أنهم يعلمون بكذبه؟!. ولإتقان صوت الأذان العربي استعان إخوة يسوع الصغار بالألحان العربية السورية واللبنانية التي كانت تصلهم كتبها قبل أن تستضيف إرسالية الأبيض الأب أنطوان حبيب Antoine Habib القادم من لبنان خصيصا ليعلمهم كيفية الصلاة بالعربية ولتدريبهم على اللحن العربي لاستعماله في الأذان وفي المناسبات الدينية كألحان وترانيم عيد الميلاد.