هو الرائد المبدع المؤرخ أبو زيد، ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي، من ذرية الصحابي وائل بن حجر، ولد ونشأ بتونس، وسهر على العلم والمعرفة، وكان من بيت علم ونباهة ورئاسة، فحصل من المعارف ما أهَّله وهو في شبابه إلى المشاركة في الحياة الإدارية والسياسية والعلمية، فرحل إلى فاس، وتلمسان والأندلس وتولى أكثر الأعمال الإدارية والقضائية وهو في مقتبل العمر، واستمر في ذلك نحو ثلاثة عقود وعرف خلالها صعود نجمه وهبوط سهمه، عرف المجد الباذخ والسجن والتضييق، فقد ناوأه آخرون وحسدوه وحقدوا عليه، ووشُواْ به فكان يتقلب في الحياة، من رفعة وعز إلى ملاحقه ونفي، ولكن نفسه الطلعة وروحه الطامحة، وعزيمته الأبَّية جعلته لا يلين ولا يستكين ولا يرضى بالدون في هذه الحياة، وكان كل يوم يمر عليه يكسبه خبرةًّ ومعرفة بطبيعة الناس والحياة، وكيف يتصرف الناس من تابع ومتبوع وعالم وجهول وإمام ومسؤول، ونظراً لما كان يتمتع به من عبقرية فذة، فقد جعلته هذه التجارب يلخص أسس التاريخ الإنساني بثوابت يدور حولها الناس طبقاً لثوابت طبيعتهم ونواميس حياتهم، فتفرغ في آخر عمره ردحاً من الزمن توجه فيه إلى القاهرة حتى توفي بها، وعكف على تدوين رؤيته وخلاصة عبقريته في مصنفات عدة أهمها "المقدمة" التي كتبها بمغارة في تيارت غرب الجزائر وقدم فيها لتاريخ البشرية المسمى "العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، أفرغ في هذه "المقدمة" أسس بناء الدولة وقيام الحضارة وركائزها وأركانها ورسومها واستمرارها، والمعارف والعلوم التي تنشأ في الدولة وتتسع، وهنا تعرّض لصنوف المعرفة بخبرة ودقة واطلاع، ولخص ذلك أحسن تلخيص، ولم يفتهُ من العلوم والمعارف السائدة في عصره شيء، وكان بهذه المقدمة يضع رؤية جديدة تنطلق من تاريخ الإنسان، وتجربته الفنية في السياسة والحكم، وتمكنه من العلوم الإسلامية النقلية والعقلية لتكون هذه الرؤية منار هداية لرجال الدولة ورجال العلم، وكذلك كان، وقد بقيت مغمورة مدة من الزمان ثم أدرك الناس قيمة هذه الآراء وأهميتها فعكفوا عليها وصارت منطلقاً لدراسات عديدة في علم الاجتماع البشري والحضارة والسياسة ومناهج العلم والمعرفة وترجمت إلى عدة لغات وغدا بها ابن خلدون عند جميع الشعوب رائداً فكرياً ومعلماً حضارياً، ودليلاً أميناً على طريقة الشعوب البانية، ولهذا كثرت حوله وحول مقدمته الدراسات والأبحاث تنشر هذه الآراء وتعَرف بهذه العبقرية الفريدة. وقد ترك غير هذا الكتاب كتباً أخرى تدل على قوة فكره وسعة إطلاعه، وبُعد نظره للمستقبل الآمن الذي يسعد فيه الإنسان، لقد كان ابن خلدون إماماً في الفكر، رائداً في الإبداع، ثابتاً على ما يراه حقاً وصواباً، مؤثراً في جيله وما بعده حتى في أعدائه، وترك للناس وراءه مآثر جليلة، ومؤلفات مفيدة. فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وأثابه على عبقرياته.