بقلم: هشام عبد الله تفور إسرائيل بغيظها يداها مطلقتان تضيق ذرعا ووسائل قوتها شتى فتضرب خبط عشواء وبحوزتها حداثة تكنولوجيا التفوق والدقة. يمر الوقت ولا شأن لها بالزمن ما دامت تسفك دم الفلسطينيين وتحيل ديارهم خرابا وتغشى ليلهم وتطفئ نهارهم. إنه فيض من غيظ كبير يتجلى في كل لحظة تعبر مواقيت عدوانها المتواصل على غزة آخرها تلك الشراسة غير المسبوقة في التاريخ الحديث في التعامل مع مستشفى الشفاء. ثمة مستويات قياسية من غضب وكره وعصبية تخرج من تصرفات وسلوك إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين. سلوك تمتد جذوره عميقا في تاريخ استعمار الصهيونية لأرض فلسطين التاريخية ولم تقدر أكثر من مئة عام من المحاولات القاسية من دفنه أو حتى تحويره إلى ما هو غيره أو إلى ما لا يشبهه. انها مقاربة المستعمر للمستعمر والاحتلال للمحتل والتي لا يمكن تطبيقها من دون استخدام كل مستويات القوة ومن دون الالتفات إلى ضحاياها بشرا كانوا أو حجرا. لكن أبشع ما في مستويات القوة والطغيان يتمثل في الإصرار على نزع صفة الإنسانية والآدمية عن الخصم وهو ما سعت إليه إسرائيل دوما حتى قبل إقامتها عام 1948 عندما أطلقت دعاية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض وهي فكرة قام بالترويج لها زعماء الحركة الصهيونية مثل إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل نتج عنها إحدى أعظم الكوارث الإنسانية التي حدثت في القرن العشرين ألا وهو ترحيل الفلسطينيين من أرضهم. في حينه لم يتم الترحيل والتهجير إلا بعد أن دمرت ميليشيات العصابات الصهيونية برعاية الانتداب البريطاني في حينه نحو 500 بلدة وقرية فلسطينية وارتكبت عددا كبيرا من المجازر لا تعرف لها إحصائية دقيقة حتى الآن بسبب مواصلة دولة إسرائيل إبقاء الحظر على أرشيف النكبة وعدم إتاحته للجمهور حتى اليوم. وما يحدث حاليا يعتبر ثاني أكبر تهجير للفلسطينيين على يد إسرائيل منذ نكبة 1948. وقد أعلن المفوض العام ل وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) فيليب لازاريني أن ما حدث في قطاع غزة خلال الأسابيع الماضية يعدّ أكبر تهجير للفلسطينيين منذ عام 1948 . وأضاف لازاريني في تصريحات نشرتها الأونروا على منصة إكس أنها هجرة جماعية تجري أمام أعيننا وسيل من الناس يُجبرون على النزوح من ديارهم . وعدّ المفوض العام ل الأونروا أن سكان غزة عاشوا جحيماً على مدار نحو 6 أسابيع منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر الماضي. *مستشفى الشفاء وفي حالة مستشفى الشفاء في غزة ما يفسر ذلك ويفيض. مجمع الشفاء الطبي الذي يضم ثلاثة مستشفيات متخصصة ويعمل فيه نحو 25 في المئة من العاملين في المستشفيات في قطاع غزة عمره أكبر من عمر إسرائيل نفسها. وتشير معلومات انه اقيم في عام 1920 في حين تذهب بعض المصادر انه ترعرع إلى ما صار عليه من عيادة صغيرة اقيمت عام 1892 في غرب مدينة غزة قريبا من شاطئ غزة. وهناك ما يدعم ذلك لاسيما وأن غزة كانت وعلى مر العصور مركزا تجاريا واقتصاديا له شأنه في المنطقة ولا غرابة انه كان متقدما في تقديم الخدمات الضرورية للسكان والزوار. وبالرغم من مخنلف القيود التي فرضتها إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة عشية احتلالها عام 1967 لاسيما الإجراءات المشددة ضد تطوير المؤسسات العامة خاصة المستشفيات والمدارس والجامعات والجمعيات لكن الفلسطينيين تمكنوا من إقامة بنية تحتية خدماتية في مناطقهم كان أبرزها مستشفى الشفاء الذي تحول تدريجيا إلى مجمع طبي متقدم ومتطور يضاهي في أدائه وامكانياته مراكز طبية مماثلة في دول مستقرة وذات سيادة كاملة. ولم يبخل أطباء أجانب مثل الدكتور النرويجي مادس فريدريك غيلبرت في توصيف قدرات مستشفى الشفاء الاستثنائية. وهو تطوع للعمل في قطاع غزة لفترة تجاوزت 15 عاما إذ عمل في مستشفى الشفاء خلال حرب 2008-2009 وحرب 2012 وحرب 2014 وأجرى آلاف العمليات الجراحية خلال فترات الحروب وأنقذ حياة آلاف الفلسطينيين المتضررين من العدوان الإسرائيلي وكان يزور القطاع في الفترة ما بين الحروب للاطمئنان على وضع الكوادر الطبية فيه. طوال كل هذه الهجمات المتكررة التي شنتها قوات إسرائيل على غزة والتي خلفت في كل مرة آلاف الضحايا من الشهداء والمصابين كان مستشفى الشفاء يخرج أكثر متانة وقدرة على العطاء والعمل وظل يواصل عمله في ظروف قاهرة أحاطت بغزة كلها في السنوات ال 18 الأخيرة من الحصار الإسرائيلي المتواصل. *تشريع قتل الفلسطينيين ثم جاءت معركة السابع من أكتوبر الأخيرة التي ارتفع فيها منسوب الغيظ الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين ومن مستشفى الشفاء لما يمثله من صفات وملامح تدحض رواية إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة. ولم يتورع بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل من وصف حماس والفلسطينيين غداة الهجوم الذي نفذته المقاومة في مستوطنات غلاف غزة بانهم داعش الجديدة. وراح نتنياهو ومعه مسؤولون مدنيون وعسكريون وآلة إعلام محلية ودولية عملاقة في تأليب الرأي العام العالمي والدول والحكومات ضد الفلسطينيين. يمكن لأي جهة ان تحرض ضد خصمها يحدث في كل بقاع الأرض لكن تحريض إسرائيل ومؤيديها ضد الفلسطينيين يفوق ويتعدى أي حالات سابقة أو حديثة. انه استهداف لنزع صفة الإنسانية والآدمية عن الخصم ما يترتب عليه تشريع قتل الفلسطينيين وهدر دمهم وهدم مساكنهم ومدارسهم ودور عبادتهم وطبعا مستشفياتهم المحمية نظريا وفق القانون الدولي والتشريعات الإنسانية. ولم يكتف الإسرائيليون بوصف الفلسطينيين بالدواعش الجدد وبالحيوانات البشرية وقاطعي رؤوس الرضع ومغتصبي النساء بل ان إسرائيل وعلى لسان نتنياهو ظلت تكرر على مسامع الغرب من مسؤولين ومشرعين وإعلام وصحافة انهم أيضا مستهدفون والدور التالي عليهم كذلك من داعش الجديدة التي تقيم في مساجد وكنائس ومدارس وجامعات وطبعا في مستشفيات مثل المستشفى المعمداني ومجمع الشفاء الطبي في غزة. لذلك مر قصف المستشفى المعمداني على قوائم مجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين كغيرها من المذابح التي لا تثير أي رد فعل. ومجزرة مستشفى المعمداني وتُعرف كذلك باسمِ مجزرة المستشفى الأهلي العربي هي مجزرةٌ ارتكبها سلاح الجوّ الإسرائيلي حينما أغارَ على المستشفى الأهلي العربي المعمداني في حي الزيتون جنوب مدينة غزة في ساعات الليل الأولى من يوم السابع عشر من أكتوبر الماضي في نطاق العدوان الحالي ضد غزة. وأصابت الغارةُ الجوية الإسرائيلية العنيفة ساحة المستشفى التي كان فيها العشرات من الجرحى فضلًا عن مئات النازحين المدنيين وأغلبهم من النساء والأطفال. سبَّبَت المجزرةُ الإسرائيلية كارثةً حقيقية إذ مزَّقت أجسادَ الضحايا وجعلتهم أشلاء متفرِّقة ومحترقة فيما تحوَّل المستشفى إلى بِركة من الدماء. يُعَدُّ المستشفى الأهلي العربي المعمداني أحدَ أقدم مستشفيات قطاع غزَّة ويتبع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس. إسرائيل ومعها وسائل إعلام غربية وفي تصرف غير مفاجئ تجاه الفلسطينيين اتهمت حركة الجهاد الإسلامي في غزة بانها تسببت بارتكاب المجزرة بسبب عطل في هجمة صاروخية كانت تعدها لاستهداف إسرائيل. كل ذلك وما سبقه وتلاه يندرج في مشروع عملية إسرائيلية ممهنجة ومعدة مسبقا للهجوم التالي على مجمع الشفاء الطبي. ومنذ الأيام الأولى للمعركة الحالية في غزة وإسرائيل ترسل تصريحات وتلميحات وادعاءات بان المقاومة الفلسطينية تستخدم مستشفى الشفاء في غزة مركزا لقياداتها وان الأنفاق التي بنتها وحفرتها المقاومة وتختبأ تحتها تقع أسفل المستشفى. وقبل ان تتقدم دباباتها ويتوسع قصفها لمحيط المستشفى قامت إسرائيل بقطع الدواء والوقود والمستلزمات الطبية وحتى الماء والغذاء عن مجمع الشفاء. *وفاة عشرات الأطفال الخدج وطوال أسابيع من حصار مشدد وضربات بالذخيرة الحية واصلت طواقم مستشفى الشفاء تقديم خدماتها للمرضى والمصابين وراحت ترتجل إجراء العمليات الجراحية والعلاج اللازم بدون أدوية وبدون أدوات ضرورية وحتى بدون المخدر وكذلك بدون كهرباء بسبب انقطاعه واضطر العاملون في المستشفى إلى حفر قبر جماعي لجثث الشهداء التي تكدست في المكان قبر جماعي في أحد ساحات المستشفى والذي لم يتسع لجميع الجثث التي كان يتم دفنها تحت القصف والضرب المستمر وبوجود آلاف النازحين الذين لجأوا إلى المستشفى ظنا منهم انه مكان آمن من ضرب إسرائيل وقتلها. ظل مستشفى الشفاء يعاند في استمراره لاعتباره مركزا طبيا هدفه إغاثة وعلاج المصابين بل انه تفوق على قدراته وامكانياته الطبيعية. وبينما تطلب طواقم طبية تدير مستشفيات في مختلف بقاع الأرض مساعدات إضافية ان اضطرت لمعالجة زيادة طفيفة في المرضى كان مستشفى الشفاء خلال المعركة الحالية يستقبل آلاف الحالات يوميا في حين ان قدرته الاستيعابية لا تتعدى أكثر من 700 سرير في الوضع الطبيعي ناهيك انه يعمل في ظل انقطاع الكهرباء ونفاد الأدوية والأدوات والمستلزمات الطبية الضرورية. وصف المتحدث باسم وزارة الصحة في قطاع غزة الدكتور أشرف القدرة الوضع في مستشفى الشفاء بالكارثي وقال في مقابلة صحافية إن الطواقم الطبية والمرضى والنازحين محاصرون في المجمع الطبي الذي أصبح معزولا تماما عن العالم الخارجي بسبب انقطاع الاتصالات ولم تدخله أي إمدادات طعام ولا ماء منذ 8 أيام. وأشار القدرة إلى أن المرضى في مجمع الشفاء يتضورون جوعا وألما والنازحون لا يجدون كسرة خبز كما أن القمامة المتراكمة تشكل تهديدا جديدا للمحاصرين في مجمع الشفاء البالغ عددهم ما بين 7 و10 آلاف شخص. وأوضح المتحدث باسم صحة غزة أن الطعام الذي سمح بإدخاله يكفي فقط 400 شخص. وأكد القدرة وفاة 51 من المرضى بينهم 4 من الأطفال الخدج خلال هذه الفترة محذرا من أنه إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن عدد الشهداء سيتضاعف. وختم القدرة تصريحاته بالقول إن قوات الاحتلال دمرت البنية التحتية لمجمع الشفاء وآبار المياه وشبكة الأكسجين مؤكدا أن 1500 كادر طبي ومئات المرضى و7 آلاف نازح يواجهون الموت في مجمع الشفاء. مطالبا مجددا بممر آمن لإدخال المستلزمات الطبية والغذاء والوقود. يبدو ان إصرار مستشفى الشفاء على العمل في مثل هكذا ظروف غير طبيعية قد استفز بالفعل مشاعر الغيظ والعصبية الإسرائيلية وبعد أن رفضت طواقمه المغادرة وترك مرضاها خلفها وأبت إلا أن تنتصر لإنسانيتها وآدميتها التي تنكرها إسرائيل ومؤيدوها قررت قوات جيشها اقتحام المستشفى الذي تحول إلى قلعة محصارة يقاتل أفرادها لحماية مرضاهم ومصابيهم من غيظ إسرائيل. وبعد الاقتحام المسلح للمستشفى وطرد اللاجئين إليه ووفاة عشرات الأطفال الخدج بسبب توقف عمل الحضانات التي انقطعت عنها الكهرباء بعد نفاد الوقود ووفاة مرضى آخرين أصر الناطق العسكري الإسرائيلي على الإعلان أن جيش إسرائيل سيعمق العمليات في مستشفى الشفاء لا مستشفى تراه إسرائيل في مستشفى الشفاء ولا مرضى يموتون أو مصابون وجرحى يلقون خارجه وطواقم أطباء وممرضين وممرضات ومساعدين ومساعدات لم يهزمهم الإعياء ولا غلبهم التعب وهم مستمرون في معالجة مرضاهم ومواصلة واجبهم الإنساني في مشفاهم الذي تحاصر الدبابات المدرعة محيطه وساحاته. تدرك إسرائيل ان داعش الجديدة المخترعة من جوف تحريضها ليس لديها جامعات ومدارس ومساجد وكنائس وبيوتا تضم عائلات تفرح بنجاح أولادها وتفوقهم. يعرف نتنياهو ان داعش الفلسطينية التي يسوقها للعالم ليس لها لا وجود ولا تملك مستشفى مثل مشفى الشفاء الذي يغيظها. وقد اقتحم جيش الاحتلال مستشفى الشفاء فجر يوم الأربعاء الماضي بعد قصفه وحصاره لعدة أيام.