عندما كنّا صغارا، نحبو على درب العلم والمعرفة، كنّا نتوسّل إلى والدنا المريض الفقير المعدَم حتى يعطينا قرشا واحدا لنشتري صورة المجاهدة الجزائرية النموذج جميلة بوحيرد، تضامنا منّا مع ثورة المليون شهيد التي كنّا وما زلنا نعتبرها ثورة العرب والمسلمين جميعا ومصدر فخر واعتزاز لنا· بعد حوالي نصف قرن بدأنا نسمع عن الأردن أوّلا، مصر أوّلا، سورية وبس، السعودية أوّلا، إماراتي وأفتخر، ليبي وأعتزّ··· والقائمة طويلة لا مجال لحصرها في هذه المساحة· الآن نترحّم على هذه الظاهرة القُطرية الصادمة، نحن الذين تربّينا على قيم الوحدة العربية والانتماء إلى عالم إسلامي أرحب، عندما نرى كيف تتآكل الدولة القُطرية وتتفسّخ لمصلحة صعود الطائفية والعنصرية، بل والانهيار والانحلال المجتمعي الكامل· الهويتان الإسلامية والعربية تراجعتا كلّيا لمصلحة هويات مناطقية وطائفية ومذهبية ضيقة، فالعراقي وبعد حرب (التحرير) الأمريكية ونشوء (العراق الجديد) بات شيعيا أو سنّيا، كردياً أو عربيا أو آشوريا أو كلدانيا، لم تعد هناك هوية إقليمية أو عربية أو إسلامية جامعة ومتعايشة· النموذج نفسه بات ينتقل حاليا وبسرعة إلى (سوريا القديمة)، ممّا ينذر بأن (سوريا الجديدة) ربما تكون نموذجا مشوَّها للعراق الجديد، فقد بدأنا نسمع وبصوت عال عن هوية علَوية متحالفة مع هويات درزية وإسماعيلية ومسيحية وشيعية في مقابل هوية سنّية تشكّل الغالبية الساحقة من المعارضة التي تقاتل النّظام الديكتاتوري وتعمل جاهدة لإطاحته· إن الوضع اللّيبي بعد التحرير يسير على المنهجين السوري والعراقي، فليبيا باتت ممزّقة مناطقيا تحكمها ميليشياتٌ متعدّدة المشارب والتوجهات العقائدية، وتتفتت على أسس قبلية ضيّقة أيضا، فقبائل التبّو في سبها تريد دولة خاصّة بها، وقبائل الطوارق تتطلّع إلى اقتطاع جزء من شمال مالي وآخر من جنوب ليبيا لإقامة دولتها أيضا، أمّا قبائل برقة (بنغازي وجوارها) فتريد الانسلاخ عن (الغراوبة) في طرابلس، والمصراتيون بات لهم كيانهم المستقلّ في الوسط. ' ' ' لبنان ممزّق طائفيا وينتظر أن يشتعل هذا التمزّق اعتمادا على ما يحدث في سوريا، والصورة التي ستنتهي إليها الأوضاع فيها، والسودان خسر ثلث أراضيه بانسلاخ الجنوب وربما يفقد الثلث الثاني بانفصال دارفور، والبحرين تواجه مستقبلا مجهولا ككيان مستقلّ وضمها إلى المملكة العربية السعودية ل (تعديل) أو (تذويب) التركيبة السكانية فيها بات أمرا غير مستغرب، أمّا الخليج العربي فيشعر بأنه مُهدّدٌ إيرانيا، وهكذا اختلطت الأمور سياسيا وعسكريا بطريقة مرعبة. فبعدما كانت هناك اتفاقات دفاع عربي مشترك وأمن عربي مشترك بات حلف (النّاتو) هو الذراع العسكرية للأمّة العربية، وتراجعت مؤسسة القمّة العربية لمصلحة تكتّل أو تحالف هجين، ممسوخ بين العرب وأوروبا وأمريكا· تحالف (أصدقاء ليبيا) بات الحلقة الأولى للتحالف الجديد الذي حلّ محلّ الجامعة العربية والدفاع العربي المشترك، بل ومؤسسة القمّة، الآن تطوّر هذا التجمّع وتناسخ، وبتنا اليوم نتابع اجتماعات تحالف (أصدقاء سوريا) وغدا سيكون هناك (أصدقاء الجزائر) وربما (أصدقاء السعودية) و(أصدقاء مصر) والحبل على الجرّار· التحالف مع أمريكا كان خطيئة حتى الأمس القريب، الآن خوض حروب أمريكا، سواء ضد الإرهاب أو في البلدان العربية لإطاحة أنظمة ديكتاتورية بات أمرا طبيعيا، بل حضاريا له منظّرون ومفكّرون، ومن ينتقد ويذكِّر بالثوابت، ولو على استحياء، فهو نصيرٌ للديكتاتوريات القمعية وانتهاك حقوق الإنسان· ومن يقول ذلك للأسف هم من يتّكئون على ظهور ديكتاتوريات تعتبر (حميدة) من وجهة نظرهم! لا نستغرب أن يقودنا هذا التطورُ المفاجئ إلى تحالف مع إسرائيل، وبدأنا نسمع أصواتا تمهّد له، من حيث إصدار فتاوى تبرّر التحالف مع (الشيطان) لتخليصنا من الأنظمة الديكتاتورية القمعية التي ترتكب المجازر ضد مواطنيها· نعم نقرّ ونعترف بأن الأنظمة الديكتاتورية القمعية سحقت كرامة شعوبها وتغوّلت في سفك دمائها وانتهاك أبسط حقوقها الانسانية، لكن هل يكفي لومُ هذه الأنظمة وتركُ البيت العربي، بل القُطري أيضا، يحترق ويتشظى أمام أعيننا؟ نحن مع التغيير الديمقراطي وسقوط كلّ أنظمة القمع والفساد، ومن حقّنا في الوقت نفسه أن ننظر إلى الأمّة بأسرها ومستقبلها، وكيفية الحفاظ على تماسكها، ونشوء مشروعها الحضاري الخاص بها· أين المثقّف العربي؟ وهل بات دوره متفرّجا على انهيار منظومة قيم الهوية الجامعة لمصلحة التفتيت الطائفي والعرقي، وسقوط مفاهيم التعايش بين فسيفساء الأمة والعقيدة الواحدة؟! وهل صار دورُ هؤلاء تزيين دور مستعمر الأمس والاستعانة به الآن، بدل السعي لطريق ثالث يخلصنا من الديكتاتوريات والمستعمِر معا ويحفظ وحدتنا وكراماتنا كشعب عربي عانى الأمرّين وما زال من مخلفات هؤلاء؟ كنّا وما زلنا نفتخر بأبطال أمّتنا الذين حاربوا الاستعمار والشهداء الذين قدّموا دماءهم وأرواحهم من أجل الاستقلال وطرد الاستعمار، أمثال عمر المختار ومحمد الخامس وهواري بومدين وجمال عبد النّاصر وعبد الكريم الخطابي وسلطان باشا الأطرش والأمير عبد القادر الجزائري، وغيرهم كثيرون، نعلّق صورهم على أعمدة خيمنا ونعتزّ بهم وبنضالاتهم· بمن سنفتخر الآن؟ ومن هم الذين سيعلّق صورَهم أطفالُنا وأحفادُنا في المستقبل القريب؟ ' ' ' المثلّث العربي الذي تبادل الأدوار الحضارية على مدى ثمانية قرون، وكان مصدر إشعاع في المنطقة والعالم بأسره بات معطوبا وممزّقا، فسوريا تعيش حربا أهلية، والعراق خارج دائرة الفعل ومحكوم بنظام ديكتاتوري طائفي، ومصر في حال من انعدام وزن، وتعيش مرحلة انتقالية صعبة غير محدّدة الملامح، وتواجه مؤامرات داخلية وخارجية قد تؤدّي إلى حالة من عدم الاستقرار والتوازن ربما تستمرّ سنوات، وفي المغرب العربي الإسلامي هناك قلقٌ وترقب ورعب من حالة فوضى مسلحة زاحفة· تفكير الغالبية من النّخب الثقافية والسياسية وعلماء الاجتماع العرب منصبٌّ حاليا حول كيفية ملاحقة الحدث اليومي عبر فضائيات مارست وتمارس أعمال التضليل والكذب في وضح النّهار، وقليلون بل نادرون هم الذين ينظرون الى المستقبل، مستقبل الأمّة والمنطقة، وينخرطون في دراسات نقدية ومؤتمرات فكرية تحلّل الظاهرة الحالية وفق مناهج علمية موضوعية تعلق الجرس وتضع الحلول والمخارج· مؤتمر هرتزيليا الإسرائيلي السنوي الذي تشارك فيه أكبر العقول الإسرائيلية واليهودية من مختلف أنحاء العالم، كان من أوّل المبشّرين، بل العاملين من أجل تفكيك الدولة القُطرية العربية كمقدّمة لإنهاء مفهوم الهوية الواحدة الجامعة، القومية أو الإسلامية· نحتاج إلى صحوةٍ فكرية وسياسية تعيدنا إلى ثوابتنا الجامعة الموحّدة، تعيد إلينا كرامتنا كأمّة تحدّد المحرّمات لتجريم من يقدم عليها، والمحلّلات لتبنّيها، أمّا الحالة التي نعيشها حاليا فلا يجب أن تستمرّ، وإن استمرّت رغما عنّا بسبب دموية الأنظمة الديكتاتورية (الخبيثة) في مواجهة شعوبها وتآمر الديكتاتوريات (الحميدة) وتعاونها مع الاستعمار لإبعاد ثورات الربيع العربي عن طرف ثوبها، فإن علينا مسؤولية كبرى لإيجاد المخارج والدفع باتجاه تقليص الخسائر، إن لم نستطع منعها كليا· البيت العربي يحترق ونحن إمّا متفرّجون نتبادل التهم أو نصبّ المزيد من الزّيت والعقل غائبٌ أو مغيّب كلّيا، لهذا من الصعب مخادعة النّفس والإغراق في التفاؤل· * بعد حوالي نصف قرن بدأنا نسمع عن الأردن أوّلا، مصر أوّلا، سوريا وبس، السعودية أوّلا، إماراتي وأفتخر، ليبي وأعتزّ··· والقائمة طويلة لا مجال لحصرها في هذه المساحة· الآن نترحّم على هذه الظاهرة القُطرية الصادمة، نحن الذين تربّينا على قيم الوحدة العربية والانتماء إلى عالم إسلامي أرحب، عندما نرى كيف تتآكل الدولة القُطرية وتتفسّخ لمصلحة صعود الطائفية والعنصرية، بل والانهيار والانحلال المجتمعي الكامل· * كنّا وما زلنا نفتخر بأبطال أمّتنا الذين حاربوا الاستعمار والشهداء الذين قدّموا دماءهم وأرواحهم من أجل الاستقلال وطرد الاستعمار، أمثال عمر المختار ومحمد الخامس وهواري بومدين وجمال عبد النّاصر وعبد الكريم الخطابي وسلطان باشا الأطرش والأمير عبد القادر الجزائري، وغيرهم كثيرون، نعلّق صورهم على أعمدة خيمنا ونعتزّ بهم وبنضالاتهم· بمن سنفتخر الآن؟ ومن هم الذين سيعلّق صورَهم اطفالُنا وأحفادُنا في المستقبل القريب؟ عبد الباري عطوان· القدس العربي