بقلم: أ. كمال أبوسنة* قرأت كغيري نص اللقاء -المنشور يوم الجمعة- 12/10/2012 الذي أجرته جريدة (الخبر) مع السيد عمار عيساني، أحد مناضلي حزب (نجم شمال إفريقيا)، ومن مؤسسي الفريق الرياضي الكروي (الترجي القالمي)... والرجل رغم تجاوزه التسعين، فإن ذاكرته ما تزال تحتفظ ببعض الذكريات التي عاشها في أصعب فترة مرت على الجزائريين جميعا... ألا وهي فترة الاستعمار الفرنسي البغيض... والنضال من أجل التحرير الكامل والاستقلال الشامل. وقد لفت انتباهي التهمة المكررة، أو الفكرة المُغرِّرة التي يرددها خصوم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورددها (للأسف) السيد عمار عيساني، حين قال في لقائه بالخبر: (... فحتى جمعية العلماء المسلمين اعتبرت الاستقلال أمرا مستحيلا، أتذكر رد فعل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الذين كانوا يلقبوننا بالمجانين، ويطردون من مدارسهم المعلمين والطلبة، ومحبي الحركة الوطنية). وهذا الكلام لا يوافقه الواقع التاريخي الذي أثبت وأكّد أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت من أشد الحركات الجزائرية، بل والعربية والإسلامية، المؤمنة بالاستقلال الوطني، والعاملة في سبيله، والمتحركة نحوه في كل نشاطاتها التربوية والتعليمية والإرشادية والسياسية... ويشهد كثير من رواد مدارسها أنها لم تكن تضيق بالمنتمين إلى التيارات السياسية الوطنية الأخرى، وكان أساتذتها ومعلموها يُعلمون (إلى جانب العلوم الأخرى) علم الوطنية ومعانيها العميقة، ويذكون شعلة التضحية من أجل الوطن، ومن شعارات الجمعية المرفوعة: "الجزائر وطننا". إن القارئ الذكي لأدبيات أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومواقفهم، وعلى رأسهم الإمامين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي (رحمهما اللّه) المنشورة في جرائد الجمعية وغيرها، سيدرك بسهولة أن هؤلاء العلماء كانوا يرمون في جهادهم الشامل المصبوغ بلون التربية والتعليم، إلى إعداد الشعب بعد التنوير لمرحلة التحرير، وإخراجه من مرحلة التيه إلى مرحلة اكتشاف الذات، وفصلها عن كوابل الاستعمار العسكري والثقافي الذي حاول استئصالها، فلما استصعب ذلك، عمل على دمجها ومسخها. وقد عبرت جريدة (صدى باريس) فيما نقلته جريدة البصائر بالعدد 61 بتاريخ 20 محرم 1356ه/ 2 أفريل 1937م عن هذه الحقيقة (وخير الحقائق ما أكدها الخصوم)، فقالت: (.... إن الحركة التي يقوم بها العلماء المسلمون في الجزائر أكثر خطرا من جميع الحركات التي قامت حتى الآن فيها، ولأن العلماء المسلمين يرمون من وراء حركتهم هذه إلى هدفين كبيرين: الأول سياسي، والثاني ديني، والعلماء المثقفون هم العالمون بأمور الدين الإسلامي وفلسفته، والواقفون على أسرار معتقداته، فهم لا يسعون إلى إدماج الجزائربفرنسا، بل يفتشون في القرآن نفسه عن مبادئ استقلالهم السياسي...). وهذا المعنى الذي سبق، هو الذي بيَّنه إمامنا محمد البشير الإبراهيمي في مذكرته التاريخية التي رفعها باسم جمعية العلماء إلى جامعة الدول العربية، ونشرتها صحيفة (منبر الشرق)، وصحيفة (الدعوة) في أوت 1954 بالقاهرة، جاء فيها: (مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها، قسمان: تحرير العقول والأرواح، وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل الثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين والدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية، والأوطان من الاحتلال، متعذرا ومتعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم، ضاع غدا، إنه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل، لذلك بدأت جمعية العلماء منذ نشأتها، بتحرير العقول والأرواح، تمهيدا للتحرير النهائي). ويقول الإمام عبد الحميد بن باديس (رحمه اللّه)، وهو يتحدث عن الحرية وأهميتها في حياة الأمم والأفراد، في مجلة الشهاب بتاريخ جانفي 1937م: (حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المعتدى عليه في شيء من حريته، كالمعتدى عليه في شيء من حياته). وهذا ما دفع الإمام الإبراهيمي ليعترف بهذه الحقيقة الناصعة التي لا ينكرها إلا جاحد أو حاسد في رفيقه المجاهد ابن باديس، الذي كان من السابقين في رفع الصوت عاليا مناديا بالحرية حين قال في (المذكرة السابقة): (الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، والشهادة التي يؤديها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، هي أن أول صيحة ارتفعت بحرية الجزائر كانت من لَهَاةِ عبد الحميد بن باديس ولسانه، وأن أول صخرة وضعت في أساس نهضة الجزائر بجميع فروعها، من علمية وسياسية واجتماعية وأخلاقية إنما وضعتها يداه...). ولما اندلعت ثورة التحرير المجيدة بادر الإمام الإبراهيمي ومعه الشيخ الورتلاني إلى توجيه نداء إلى الشعب الجزائري في 03 نوفمبر 1954م، يدعوانه إلى الالتفاف حول المجاهدين الثائرين حين تنكر لهم بعض الجزائريين، وفي الخامس عشر من نوفمبر نفسه، وجها نداءا آخر على أمواج إذاعة صوت العرب من القاهرة يدعمان به فتوى الجمعية الصادرة في 25 جوان 1954، التي أعلنت فيه يأسها الكامل من عدالة فرنسا وصدقها في التعامل مع القضية الجزائرية. فكان لهذا النداء أثره البالغ في إخراس العملاء والمشككين في شرعية الجهاد باسم الدين. ومن عجائب ما أضافه السيد عمار عيساني في لقائه قوله: (وقد حاولنا الاستعلام عن موقف الشيخ عبد الحميد بن باديس المؤيد للشيوعية، والذي اعتبرناه حينها يفتقر للنظرة البعيدة، ويخالف الدين الإسلامي، حتى أن الشيخ قال سياستنا تتخلص في عدو العدو صديقنا، وأنكم مجانين، فهل يعقل أن تخرج فرنسا من الجزائر، فهذا جنون لا يقبله أي عاقل...). إن هذا الكلام عارٍ من الصحة، ولا يحتاج إلى كثير عناء للتدليل على مجانبته للحقيقة التاريخية، وتعاون جمعية العلماء مع الأحزاب والهيئات والمنظمات الاجتماعية، والشخصيات البارزة، بما في ذلك المؤتمر الإسلامي سنة 1936، لا يعني (كما هو متعارف لدى العقلاء والحكماء) الموافقة على أفكار الآخرين أو الذوبان فيها، والإمام عبد الحميد بن باديس وهو من كبار علماء الإسلام في الأمة كلها لا تخفى عنه أفكار الحزب الشيوعي، وليس من الذين ينظرون إلى أرنبة أنوفهم وهو صاحب البصر والبصيرة، ولكن الظرف التاريخي في جهاد جمعية العلماء من أجل القضية الجزائرية، والمنافحة من أجل الحفاظ على حقوق الشعب والسعي لكسب المزيد منها حتم على ابن باديس أن يسلك مسلك (الاجتماع والتحالف) مع القوى الجزائرية الأخرى للمطالبة بالسقف الأعلى من الحقوق للجزائريين، فلما يئس من عدالة فرنسا تبرأ منها ودعا إلى سلوك طريق آخر.. الذي حمل شعار (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة).! ولعل مشكلة السيد عمار عيساني، وهو رجل غير أكاديمي، أنه اعتمد على ما سمعه من خصوم جمعية العلماء، فالحزبية المقيتة تفعل بالناس الأفاعيل، ولو اطلع على ما كتبه ابن باديس لعلم أنه كان من أشد المؤمنين باستقلال الجزائر، حيث كتب في الشهاب بتاريخ جوان 1936: (إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة والعلم والمنعة والحضارة.. فكما تقلبت الجزائر مع التاريخ، فمن الممكن أن تزداد تقلبا، وتصبح مستقلة استقلالا واسعا، تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحر على الحر...). ومثل هذه المفاهيم والدعوات هي التي صنعت جيل الثورة، ويكفي الجمعية فخرا أن أعضاء 22 الذين أعلنوا الثورة وفجروها منهم من هم من أبناء الجمعية، والمتأثرين بها، وقد كان سي بن بولعيد تلميذا من تلاميذ مدارس الجمعية وعضوا فاعلا في شعبتها بآريس، وسي عميروش كان من أعضاء شعبة باريس النشطين والمؤمنين بأفكارها، كما يكفيها فخرا أنها قدمت الآلاف من الشهداء، وعلى رأسهم (الإمام الشهيد العربي التبسي) نائب رئيس جمعية العلماء القائل: (إن الاستعمار حيوان مسلح لا يعرف إلا ما كانت لغته القوة والسلاح...) (البصائر س3/ع90/1949). وفي الأخير أرجو من وسائل الإعلام حينما تنشر مادتها (خاصة فيما يتعلق بالحقائق التاريخية) أن لا تعتمد أسلوب المراوغة، كما فعلت (الخبر) لما كتبت بالبنط العريض (فرحات عباس وجمعية العلماء المسلمين اعتبرا (الاستقلال مستحيلا)، فهذه الأساليب لا تخدم الحقائق، وإنما تروج للأباطيل..!.