د. عبد الكريم بكار لاحظ مالك بن نبي (رحمه الله) أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين. وملاحظته (في ظني) في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة، وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!. في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال، ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب، إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة، إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً. وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!. وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس، لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي - على المستوى الوظيفي _ أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة، فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك. العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي - بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة _. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة، وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة. مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها. إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)! إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم. في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل ال (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم. -يتبع-