(كم مرة رسمت القيد، لكن محاولاتي كانت دائما تبوء بالفشل لعجزي عن رسم برودته). كانت هذه الفكرة الأولى التي خطرت لرسام الكاريكاتير الفلسطيني محمد سباعنة لحظة اعتقاله ووضع القيود في يديه وقدميه. وهناك في زنزانة مركز تحقيق الجلمة الإسرائيلي شمال الضفة الغربية، يقول سباعنة (تختصر العالم أجمعه في فرشاة أسنان مكسورة وكأس وملعقة بلاستيكية.. والكثير الكثير من الشوق). وخلال ستين يوما احتجز فيها بزنزانة حملت الرقم 28، انشغل سباعنة بمواجهة الحياة عبر رسومات تعكس واقع نحو خمسة آلاف أسير فلسطيني وهمومهم اليومية، نجح في تهريبها عبر محاميه لعلها تعلق في معرض ينقل للناس آلامهم وإصرارهم على الحياة. وبعد الإفراج عنه، افتتح الفنان الشاب قبل أيام معرضا بمركز خليل السكاكيني في رام الله ضم نحو أربعين لوحة كاريكاتيرية رسمها خلال اعتقاله، وحملت جميعا اسم (زنزانة 28). وفي المعرض، كان سباعنة يقف قرب لوحة كاريكاتيرية مؤثرة عن طفلة تجلس أمام صورة والدها الأسير، وتقول إنها لم تره ولم يمسح لها شعرها، يقول سباعنة (من يسمع حوارها يعتقد أنها يتيمة لكنها طفلة أحد الأسرى، وهناك آباء كثر في الزنازين ينتظرون احتضان أطفالهم). ويعتقد سباعنة أنه من خلال لوحة الطفلة، وأخرى يجدّل لها أبوها شعرها من خلف قضبان سجنه، قد يقرب للناس أكثر معاناة مزدوجة للأسير وعائلته داخل وخارج القضبان. وتنوعت مواضيع لوحات سباعنة التي علقت على أسلاك شائكة، حيث رسم صراع الأسرى عبر لوحة (الفورة) وفيها تصوير لوقت قصير يسمح به لهم بالخروج إلى ساحة السجن ويستغلونه في المشي. وإلى جانبها أيضا لوحات تصور القيد شمسا تضيء للآخرين، أو ناقوسا يدق به كي يسمعه العالم، وكذلك مشهد الزيارة عبر زجاج عازل، وحوار الأسير مع ظله في زنزانة انفرادية. ويقول سباعنة إن رسوماته في الزنزانة حملت في مجملها تفاصيل حياة الأسرى من لحظة الاعتقال ثم العزل في الزنزانة والوحدة بداخلها ومعركته مع الوقت وحالة الحصار النفسي التي يتعرض لها وعن التفاصيل اليومية للبوسطة (عملية نقل الأسرى). بالإضافة إلى مجموعة رسومات تحكي عن الهم الفلسطيني العام. وفي الزنزانة دارت أفكار سباعنة حول رغبة الأسير بالتنازل عن العناوين الكبيرة الرنانة ليعود إنسانا عاديا لأحضان أهله وبيته مجردا من كافة العناوين التي يدفع ثمنها من دمه وعمره وشوقه، وحاول توثيق تجارب حية بالرسم تعجز الكاميرا عن الوصول إليها. ويرمي سباعنة من معرضه إلى تعريف الناس بتفاصيل حياة الأسرى خاصة أن الكثيرين لم يمروا بتجربة مكثفة كهذه، وهي محاولة أيضا لتقديم عمل فني شكّل بحد ذاته تحديا للسجان الإسرائيلي وأثبت أن الأسير قادر على الخروج بروحه وفنه. واعتقل سباعنة في فيفري الماضي أثناء عودته من الأردن إلى الضفة الغربية، وتم تحويله مباشرة إلى مركز تحقيق الجلمة شمالا ومكث في الزنازين ستين يوما قبل نقله إلى سجن النقب الصحراوي. وشارك في عدة معارض فنية دولية بجنيف وألمانيا وإيران وآخرها في ماليزيا، كانت تتناول أحداث الانتفاضة الثانية مساهمة منه في نقل معاناة شعبه.