سبحان الله !.. تسبيح تعجب واستهجان من أزواج ضيقوا على نسائهم ليفتدين أنفسهن من عشرة لم يجد المعروف لها سبيلا، ولا التسريح بإحسان عنها مخرجاً و بديلاً. ما أشد غفلة هؤلاء عن قول الجبار سبحانه: (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فحرم سبحانه وحذر من أخذ بعض ما أعطين، وليس كل ما أعطين، واستثنى حالة واحدة يباح فيها أخذ بعض ذلك لا كله، وهي أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة لا ريب فيها تثبتها البينة بياناً قطعياً لا لبس فيه، وبعد ذاك أمر بالعشرة بالمعروف. لقد أصبح الفداء (الخلع) الذي يدفع لفك الميثاق الغليظ ثقيلاً على كاهل النساء أمام جشع الأزواج، وقد غاب عن هؤلاء قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا - وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا). إن إفضاء بعض الزوجين إلى بعض مانع في الأصل من أخذ الفداء، بل إن الزوج مأمور إذا طلق زوجه بالإحسان إليها (تسريح بإحسان)، وإعطائها متعة الطلاق، قال تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). فجعل المتاع حقاً لازماً وهو دليل تقوى ومعيار هدى. لقد انقلب الأصل البهي، وانتكس الأمر الجلي، و نكص على عقبه، وحاد عن هدي ربه، وأُسدل على ذلك التشريع النوراني والهدي الرباني حجاب من ليل الجاهلية البهيم، وظلمها الأليم، فغدا حق المطلقة في المتاع والإحسان والإكرام والإسكان والنفقة مالاً يطلبه الزوج منها مقابل تسريحها بأسوإ حال، يورثها هماً وغماً وألماً في سبيل خلاصها من زوج لا يعرف مروءة ولا تعرفه، ولا تردعه نخوة ولا تطلبه، ولا تزجره تقوى ولا تسكنه، ولا يثنيه ورع ولا يقربه، نسي قول الله (ولا تنسوا الفضل بينكم) ولم يذكر إلا حطام دنيا وعرض زائل. إن المال الذي يأخذه الزوج من زوجه لا يحل إلا بطيب نفس منها، لا يجوز غير ذلك، قال تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىٍ مِّنْهُ نَفْسَاً فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)، بالله عليكم أين طيب الأنفس من نساء مكلومات قهرهن أزواجهن واضطررن لاقتراض مال مقابل خلاصهن من عضل أزواجهن؟؟!! وأين هذا من شرع الله الحكيم الرحيم الطاهر؟! وأين هذا من امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تريد ترك زوجها وتقر بأنها لا تعتب على زوجها في خلق ولا دين، ولكنها تخشى أن لا تقيم حدود الله معه ومرادها حسن العشرة، لم تطقه نفسها، ولم تنشرح له، وهو أمر لا تستقيم معه الحياة، فجعل الرسول الكريم عليه السلام الأمر لها، على أن ترد عليه حديقته التي أمهرها، فكان ما أرادت. فكيف يسوغ بعد ذلك أن نقيس على هذه الحادثة حوادث لا تمت لها بصلة، فيؤخذ من النساء كل مهورهن من غير إقرارهن بأنهن لا يعتبن على أزوجهن في خلق ولا دين ؟؟!! والقياس الشرعي لا يصح إلا مع تماثل الأصل والفرع واتحاد العلة وإلا كان قياسا مع الفارق وهو باطل، وأين هذا التماثل بين تلك الحادثة وما يقاس عليها ؟؟!!، فضلاً عن أنها واقعة عين لا عموم لها! كما أن الافتداء الوارد في قوله تعالى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) إنما هو في حال الخوف من عدم القيام بحدود الله من حسن العشرة، وهو أيضاً بشيء من المهر، لا كله، إلا أن ترضاه طيبة به نفسها، فقد نهى سبحانه عن أخذ شيء من مهورهن، وأباح ورفع الجناح عن أخذ شيء منه في حال الخوف من عدم القيام بحدود الله، قال تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). إن الأصل أن ما يُعطى للزوجة لا يأخذه الزوج منها بعد الإفضاء، قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وقال: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)، فإذا لم يكن ثمة إفضاء فلا بأس أن تتم المخالعة بكامل المهر في حال كره المرأة زوجها من غير أن يسئ إليها، بل هي لا تعتب عليه في خلق ولا دين، فهنا لا ذنب للزوج اقترفه، ولم يحصّل متعة تقابل مهره، فله أن يأخذ ما أمهرها طيبة به نفسها، ومناسبة أخذ كامل المهر هنا ظاهرة، وعليها تُحْمل القصة الواردة في المخالعة. فإن قيل بأن القصة لم تذكر أنه لم يدخل بها؟ فالجواب بأنها كذلك لم تذكر بأنه دخل بها، وليس بمثل هذا يخصص عموم القرآن الكريم القاضي بعدم أخذ شيء بعد الإفضاء، إلا ببعض شيء مما أمهرها لا بكله إلا أن ترضاه، وذلك حال كونها لا تعتب عليه في خلق ولا دين. أما في حال ثبوت إساءة الزوج لزوجته فليس لها أن تطلب الطلاق فحسب، بل لها أن تطلب عوضاً عن تلك الإساءة، فالزوجية لا تبيح الإساءة، بل هي خلاف ما اقتضت الحكمة الإلهية من الرحمة والمودة بين الزوجين، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وقد أوصى الله كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه قال تعالى: (واعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) فالصاحب بالجنب يشمل الزوج والمرأة. وأوصى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهن خيرا فقال في خطبته بحجة الوداع: (واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان لديكم). وإن المرء ليعجب من أولئك الأزواج الذين يضربون من أوصى بهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيراً! أين توقير النبي في نفوسهم؟! وأين وصيته في قلوبهم وأعمالهم؟ لقد جعل الشارع الحكيم ضرب السيد لعبده خطيئة لا تغفر بحسب ظاهر الحديث إلا أن يعتقه ويخلي سبيله و يحرره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) فكيف الأمر بالمربية التي رفع الله شأنها، وأعلى مقامها!! كما أنا نجد في واقعنا تعاملاً آخر للمرأة بعد طلاقها إذ نجد بعض الأزواج - رفع الله عنهم ظلمات الجهل - يتلاعب في العدة التي فرضها الله تعالى، فلا يراجع زوجته إلا ليطيل عليها عدتها، فتراه إذا طلقها الطلقة الأولى وكادت أن تبلغ العدة أجلها راجعها لا ليمسك بمعروف بل ليطلق من جديد وتستأنف الزوجة عدة أخرى تنكيلاً وإضراراً بها، وما درى هذا المسكين أنه قد تقحم أمراً عظيماً ومنكراً كبيراً، فقد وصف الله تعالى أولئك اللاعبين بالظالمي أنفسهم والمتخذي آيات الله هزواً ، قال جل ذكره: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). ألا فليتق الله من هذا حاله، وليسارع إلى رفع ظلمه، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وما هي إلا أَنْفَاس تخفت، فتبهت بالحساب، ولات حين مناص. * محامي وباحث شرعي/ عن موقع الإسلام اليوم