تلد الحياة في عمق الإنسان عبر صرخات من الآلام الحادة تبكي أحيانا وتتوجع، تبتسم أحيانا وتقهقه، تحبو، ترفس برجليها، وتناوش بيديها، وتمتص أناملها، تلبس مرة، وتظهر عارية مرة أخرى، ولا ضرر في ذلك ولا ضرار. إلا أنها إذا ما اشتد عودها، ونما قوامها في قلب الإنسان فهي بمثابة الفتاة الجميلة ما تفتأ تخلب لبه وتسلب عقله وتشغل باله عن ما سواها، فيتحول إلى عبد مطيع، بل إلى طفل رضيع لا يزوره النوم إلا في أحضانها، ولا يأتيه السبات إلا على هدهدتها، ولا يهدأ روعه، وتغمض أجفانه إلا على لمسات يديها ودفء صدرها... والرقيق من حنين قلبها. طفل يأبى الفطام، يرفض البلوغ ويفزع من الرشد، ينحني لجمالها، يركع لسلطانها، يقبل إذا أدبرت يهرول نحوها، يلهث وراءها، يجري خلفها كتائه كضال وراء دليلته... يعطيها الثاني إذا صفعت الأول من خديه، يستسلم إذا تحولت إلى ملاكم يلوي الذراع ويدك العنق، يمزق اللحم ويهشم العظم. هكذا وهو يطلب "عنب الشام وبلح اليمن" معا من عشيقته التي لم تكن له وحده، إنما هي كالعملة يتساوى في القيمة جديدها بقديمها، يتحول إلى آلة صماء بكماء عمياء لا تفقهه، وإلى وحش في داخله العذاب وما خارجه إلا صورة من لحم ودم عاجز عن كل أداء غير صنيع المسك بالتلابيب والحبو عند الأعتاب، والسجود أمام أصحاب طوال الهامات وذوي الباسقات من الأعناق والرقاب. ذلك أن طرائق بحثه عن مواقع ارتسمت أمام جشعه المفرط بدأت خاطئة تشوبها الكثير من النواقص والإخلالات وهو يخلط في حساباته بين العهود المنتهية أو السابقة وتلك التي يعيشها والقادمة، فبدل أن يرفل بجوخ الحبيبة ويترنح بحريرها ويتلذذ بالعبق الخالص من عطرها، تبخسه طباعه وتفضحه مآربه فيتعرض لفضائح أسوأ بكثير مما لو أحيل على محكمة جنايات خاصة، وأن ريبة أمام الناس إهانة وأعظم مذلة من الوقوف أمام المحاكم وبين أيدي لجان التحقيق. يا أيها الملأ إن المشجب الذي تعلقون عليه أدرانكم قد سئم أدرانكم، وصار غير قادر على تحمل الأدران، وأن الحبل الذي تنشرون عليه غسيلكم قد مل تجفيف منابع أوساخكم وكاد أن ينفد ما عنده من طهور لأبدانكم. إن بقيتم على خصالكم هذه تقتنصون المناسبات وتدبون وتسلكون، فإن قنصكم سحت وإن دبيبكم قد اشترى الضلالة بالهدي، وأن مسلككم لاربح في تجارته ولا وصل في هدايته، وأنكم والحال هذه والمنهجية هذه والبهدلة هذه لا تجنون من عرائش الكرم، العنب، ولا تقطفون من واحات النخل، البلح...!؟