يوم الأحد 10 / 03 / 2013, يمر على رحيل المجاهد الكبير عبد الرزاق بوحارة حوالي شهر. هو الذي فقدناه فجأة ودون سابق إنذار، نشعر اليوم أنه ترك فراغا لا يملأ، فقد تميز مجاهدا ومثقفا، كانت جلساته أعذب من الماء البارد لما يتميز به من سعة الصدر والثقافة معا. يدرك جلساؤه إن كانوا على شيء من الثقافة، أن الرجل هو رب القلم كما هور رب السيف. في مصيفه بشاطئ تمنار كنا نسمع صولاته وجولاته في التاريخ الجزائري قبل أن تصبح شواطئ القل الجميلة موبوءة بعصابات الجماعات المسلحة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ودائما تجد لديه الطاوف والتليد. فقد ذكر لصاحب هذه السطور، وهو يمطره بالأسئلة، أن المجاهد الشاب الشهيد محمد شعباني من قبيلة أولاد عطية، التي تبعد عن بيته الريفي إلا بعدة كيلومترات، وشعرت أنه يقدر الرجل أيما تقدير ويزنه بميزان الذهب، وأسرّ إلي يومها أنه ربما تكون الغيرة من رجل مثل بومدين، هي التي أدت به إلى مقصلة الإعدام، مما يدل على استقلالية رأيه عن النافذين في الحكم آنذاك، إنه يسمع لصوت الضمير وليس لأوامر الحاكم. وحيثما تكون وجهتك الثقافية وطلباتك العلمية، تجد الرجل حاضرا تجاهك. حدثته مرة عن أهمية ملتقيات الفكر الإسلامي، التي أنشأها المرحوم مالك بن نبي، ورعاها من بعده الموسوعي الكبير المرحوم مولود قاسم، وكان هذا الأخير يكاد يملك ناصية اللغة العربية، ابتسم سي عبد الرزاق وقال: جمعني به عمل متواصل بلجنة من لجان حزب جبهة التحرير الوطني، فأردت أن ألقي في روعه أنني بدوري أعرف أسرار اللغة العربية مثله فكنت أذهب إلى القواميس وأختار كلمات غريبة وغير متداولة ثم أضمّنها في جمل فتبدو الغرابة على وجهه، كررت ذلك مرارا ثم عرف ما فعلت معه فراقه ذلك. ومن تكرار ترددنا عليه في بيتيه بالقل والأبيار، عرفنا الكثير عن الرجل المكتبة، وأخطأت التقدير مرة لدى وفاة كريمتيه في فيضان باب الوادي الشهير، اللتين أودى بحياتهما معا وكنا نأتي لمواساته، ثم تتشعب بنا الأحاديث وسرعان ما ينسى همه ويدخل مع الحاضرين في تجاذبات ثقافية، وذكر طه حسين، وكنت مطلعا على عشرات الكتب للأديب، فقلت له وما شأنك بطه حسين أتعرفه هو أيضا؟ فاستفزه كلامي، ونظرا إلي بإشفاق، ثم أمسكني من يدي جذبني بعيدا عن الجالسين معنا، ومن جهة أخرى للبيت دخلنا إلى غرفة واسعة، رتبت فيها الكتب، وقد امتلأت الرفوف إلى السقف عن آخرها، وفي رف من الرفوف تراءت لي الأعمال الكاملة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ولما كنت أرفع من شأن الذين يقرأون، فقد ارتفع سي عبد الرزاق في عيني وشعرت بأنني صغير أمامه، إلى حد احمر وجهي خجلا، وأنا أتمتم بكلمات الإعجاب مما أرى أمامي من ثروة ثقافية، قل أن رأيت مثلها إلا مكتبة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في بيته، لكن هذا الأخير ورث جلها عن عملاق الثقافة والعلم، أبوه الشيخ البشير الإبراهيمي. وكثيرا ما كنت أيمّم شطر مجلس الأمة لألتقي به، وأنهل من ثقافته الواسعة وكنت على مرمى حجر منه في المجلس الشعبي الوطني ولدى جلوسك تجد رواده من كل الحساسيات السياسية، وربما كان تقدير الإسلاميين له أشد لمشاطرته لهم في الأخلاق والبعد عن الفحش في القول والفعل، فما عاقر الرجل خمرا أولا تعاطى دخانا ولا رآه أحد يفعل ذلك? وكثيرا ما كانت كتاباته في الصحف تثير الجدل بين معارفه، حيث كان سي عبد الرزاق يتحكم في تقنية الكتابة باللغتين العربية والفرنسية وتدهشك رصانة الكلمات ووضوح العبارات، إلى جانب وضوح الأهداف والمرامي، وعندما يقرأ له المرء يشعر أنه لا يكتب، إلا عندما يرى أنه لابد من ذلك. استغل جل المناسبات المتعلقة بالثورة، فحاضر فيها في جل دوائر الولاية (سكيكدة) وبلدياتها، مصححا مرة ومبينا أخرى، فتراه صانع التاريخ ومؤرخه في آن واحد. أما جلساته فزخمة بالملح والنوادر، جمعها في صدره ولم ينسها لجديتها أو طرافتها فسي عبد الرزاق كان من قادة القاعدة الشرقية، ويحلو له أن يروي عن المجاهد المتدين الشجاع محمدي السعيد، ما فعل يوما مع حركيين أسرهما هو وجنوده، وتضمنا هذين الحركيين المسير الطويلة للابتعاد عن خطر العدو الفرنسي، وطول الطريق يجعل القائد الكبير يدعو جنوده لرفع أصواتهم بالأناشيد لتمجيد الثورة والثوار، ثم يراه يلتفت إلى الحركيين غاضبا ثم يصفعهما على القفى مرة وعلى الوجه أخرى حاثا إياهما على النشيد، فينشدان خوفا، وإذا أنشدا بصوت مرتفع اتهمهما بالنفاق، وكرر الصفع وربما الركل قائلا انتما خبيثان ولا تلوثا اسم الجزائر بصوتكما، فوقعا في حيرة هل يسكتان أم ينشدان ؟! إلى هذا الحد كان عبد الرزاق بوحارة الذي فقدناه حلو المعشر، رجل متواضع غير متكبر، ينصح برفق، ولا يكون معك أو مع غيرك، إلا مبتسما. في بداية الانفتاح، تحلقنا حوله، في مدينة تاملوس الجميلة، على مائدة غدا دعانا إليها أحد المناضلين في حزب من الأحزاب، والذي استرعى انتباهي أنا صاحب هذه السطور، وهو يوجه إلي النصح، دون أن يسمع أحد: إن المتكلم في المجلس هو الرئيس، في إشارة لأن احترم الكبراء الموجودين معنا، قال ذلك وقد لاحظ حماسي لكثرة الحديث، وأكبرته في نفسي، لأنه نصحني في السر، وبوجه سمح، فوقر في قلبي ان الرجل أصيل في أدبه وخلقه . وفي التحضير لانتخابات 1991 الملغاة، قلت له: سي عبد الرزاق أنت جدير بأن تترشح معنا ! فاعتذر برفق أيضا، وإن كنت قد خجلت من نفسي بعد سنوات، لأنني لم أقل ما يسعني أن أقوله، كان مواطنو سكيكدة يستشفعونه في قضاياهم وما رأيته رد أحدا، قدر أم لم يقدر لشعوره بأنه دائما في خدمة مواطنيه .