كان أمل الكثير مثلي أن نرى رجلا مثل المرحوم المجاهد عبد الرزاق بوحارة، يتقلد مسؤولية حزب ج.ت.و والذي طالما تماهى في السلطة، وذاب فيها كما ذابت فيه، كنا نطمع أن يمد الله في عمره، حتى يترأس الأفلان، بعد أن تداولت الألسن اسمه وتناغمت به. ومعرفتنا بالرجل لأكثر من ربع قرن، أنه يستأهل كل المناصب التي تتوفر عليها الدولة فهو من بناها، بجهده وعرقه وقلمه، منذ ترك الدراسة ومقاعدها لدى انطلاقة الثورة العظيمة التي بقي لسانه يلهج بها وبعظمتها حتى آخر يوم من عمره. كنا منذ عرفناه نفتخر أننا شباب القل وسكيكدة، نجلس مع عبد الرزاق بوحارة المجاهد، العسكري، الوزير، السياسي، المثقف. مع بروز مرحلة الشاذلي، وارتخاء قبضة اليسار على البلاد، في منتصف الثمانينات كثف المجاهد الكبير زياراته الى مسقط رأسه في القل الكبير، فتداول الكثير إسمه مقرونا بسمعة ثقافته وتواضعه، فشدت الرحال إليه في منتجعه بشاطئ تمنار حيث مرتع صباه وجزء من جهاده. كان رواد بيته بالشاطئ المذكور من كل أصناف الناس، صديق الدراسة، ورفيق الطفولة، وصاحب الحاجة، والمستطلع الفضولي الذي يريد أن يعرف ما يدور في دواليب السلطة، وطالب العلم المستزيد منه. لم يشعر من يرتاد بيت المجاهد الكبير، أن الرجل يميز بين المرتادين بسبب ثقافتهم أو ألوانهم السياسية، أو مراتبهم الاجتماعية، وصاحب هذه السطور كان يعجب لانهماك الرجل في بسط آرائه، والرد على الأسئلة المثارة أمامه، كما لا يلحظ من يسمعه أن به حدة أو انفعال تجاه محدثه، والانطباع عن الجلسة مهما تكن، وأي علاقة لها بالجغرافية والتاريخ، لا تخلف في الذاكرة الا ابتسامته الرائعة، التي تغمر قسمات وجهه البريئة، التي يطمئن إليه من يجالسه ويحادثه. كانت سنوات الدراسة في الجامعة، أعطت انطباعا لدى الشباب، جل من يحكم مع بومدين والشاذلي، هم ما بين جاهل بالعلم ومعاقر للخمر، وراش ومرتشي وظالم ومعتد، ومعاد للغته، لا يحسن الحديث، ولا يستقيم لسانه إلا بالفرنسية. نعم هم ما بين هذا وذاك، إلا من رحم الله، إلا عندما جلسنا حول الحاج بوحارة، لا نجد عندما نيمم شطر بيته في القل أو العاصمة، فلا حديث عن النساء ولا عن الخمر، ولا ألسنة دخان السجائر، ولا فحش في القول، ولا تندر بالكلمات السوقية وصياغة أفكار باللغة العربية ومكتبات تزين بيته الريفي أو الحضري. لم يشعر من يجالسه أن يسبق الرجل الى الصلاة المكتوبة لا نستطيع إلا أن نتيقن بأن الرجل من الجزائر العميقة كانت عظمته في بساطته، وهو المجاهد من الرعيل الأول لثورة أول نوفمبر العظيمة، وكأنه لم يكتف بذلك فحالفه حظ الجهاد مرة أخرى من أجل فلسطين والعرب، فلقن اليهود في قناة السويس، ما لقن فرنسا في الجزائر. هو الوالي الذي وقف أمام عتاة الفساد من النظام في الجزائر العاصمة، كنا نفرح عندما يفد علينا وزير الصحة في ولايته سكيكدة، وكانت زياراته تخلف وراءها قصصا وحكايات. لم يقل المجاهد عبد الرزاق لمحدثه ما يدل على الأوامر، وهو العسكري، كان لا يحب مراجعة أهل العناد، ليشعرهم أنهم أحرار في أفكارهم، لا يتندر على الناس بما يخجلهم، تصل معه الى نتيجة تعيها منه بقلبك، أن الرجل لا يريد أن يكون على حساب أخلاقه. كان الرجل لا يريد أن يكون إلا شجاعا، عارض الجميع دون أن يسيء اليهم، بومدين، مهري، بلخادم، دون أن يفقد شيئا من أدبه. ما قال أحد يوما في القل أو سكيكدة أو الجزائر العاصمة، أن عبد الرزاق بوحارة ملك أو جلب أو نال، أو استحوذ أو كسب. ما ردّ صاحب حاجة، إن استطاع وإلا لم يصرفه، الا بعد أن ينصرف. بعد أن تقلب عبد الرزاق بوحارة في المناصب كنا نشاهده في سيارته مسافرا وحده، أو مرتادا لمقاهي القرى، أو الأعراس الشعبية، والعامة يعرفون عبد الرزاق اللصيق بهم، أما في لقاءاته مع أطراف الأفلان، فقواعد الحزب تتحدث عن الحاج بوحارة، الحكيم، الثائر المحب للعدالة الاجتماعية، وكان يتحدث عن قادة فيتنام، وفي لاشعوره تشف من فرنسا المهزومة في (ديان بيان فو) وحبه لشعبه الذي طالما حرم من اللقمة النظيفة، تحدث عنه يوما ابن شهيد بصوت مرتفع قائلا ما أعظمه وأعظم عطائه لبلاده، إنه رجل يجب أن نفتخر به. وربما أعتقد البعض على خطإ أن عبد الرزاق بوحارة وقف بجانب الرئيس بوتفليقة بسبب سنوات جهاده في الجبال، أو زمالة في العمل السياسي، أو حبا في مزيد من المسؤولية، أو طلبا لحطام الدنيا، وهو المكلوم في كريمتيه منذ كارثة فيضانات باب الوادي، والصحيح أن ليس هذاولا ذاك مما يظن أهل المادة والمناصب والمغانم. والثابت أن داعي تواجده ضمن الثلث الرئاسي هو مواصلة خدمة الجزائر، فقد أحس الرجل أن الجزائر تناديه، ليكمل المشوار معها، فخلق لنفسه منابر ليبقى يلهج بذكرها محاضرا ومعقبا ومصححا ومذكرا ولا أقول لائما وموبخا. فما أبعد بوحارة عن الطين والمادة، هو التقي، النقي، المحب لدينه ووطنه وشعبه. ولذلك مات الحاج عبد الرزاق بوحارة، واقفا، ولذلك كبر علينا أن يغادرنا، بهذه السرعة، ونحن ننتظر أن يرأس الحزب العتيد ليقوّم اعوجاجه بأخلاقه المستقيمة وسياسته الحكيمة وحكمته المستديمة. كان حلم صاحب هذه السطور أن يراه الأمين العام القادم، بعد عبد العزيز بلخادم، ولكن هكذا شاءت إرادة الله، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، إنه رجل فقدناه، إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم ألهم أسرته الصبر والسلوان، وارحمه رحمة واسعة، ووسع عليه قبره واجعله روضة من رياض الجنة.