تراجعت لهجة التهديد والوعيد الأمريكي - الفرنسي بخصوص توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا عقب اتهام نظام بشار الأسد باستخدام السلاح الكيميائي ضد مواطنيه يوم 21 أوت المنصرم، وتجاوز الخطوط الحمراء المسموح بها دوليا في عتبة القتل الجماعي وإبادة المواطنين في دول أنظمة القمع والحكم الوراثي! ومع تقدم المسعى الدبلوماسي لمعالجة الأزمة السورية وتراجع الخيار العسكري خطوة إلى الخلف، تألق نجم القيصر الروسي فلاديمير بوتين الذي أدى موقفه الصلب في دعم نظام بشار الأسد إلى جعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما يبدو في وضع المرتبك المتردد العاجز عن تنفيذ وعيده! والمفارقة أنه بعد أيام قليلة من مجزرة غوطة دمشق كان الوضع يبدو معكوسا. فالسفن والغواصات الحربية الأمريكية كانت في رحلة استعراض القوة في منطقة البحر الأبيض المتوسط وتتهيأ حسب تصريحات العسكريين والمحللين لإمطار سوريا بوابل من صواريخ كروز وتوما هول المدمرة لمعاقبة نظام الأسد على استخدام السلاح الكيميائي. وحينها سارعت السلطات الروسية إلى الإعلان عن عدم رغبتها في خوض الحرب من أجل سوريا، ثم أرسلت سفنا وطائرات لإجلاء رعاياها، ورعايا دول الاتحاد السوفياتي السابق الراغبين في مغادرة سوريا كدليل على تمسكها بعدم التورط في معمعة الحرب الوشيكة في سوريا. ولكن وفي الوقت الذي كانت حدة الخطاب الحربي تتصاعد في واشنطن وباريس انكبت الدبلوماسية الروسية على إتمام مبادرتها المتمثلة في إقناع حليفها نظام بشار الأسد بقبول تسليم ترسانة الأسلحة الكيميائية ووضعها تحت الرقابة الدولية تمهيدا للتخلص منها بعد انضمام سوريا إلى معاهدة خطر إنتاج واستعمال السلاح الكيميائي. وربما كان القبول السوري بالمبادرة الروسية مفاجئا للعدو والصديق، فقد وجد فيها الرئيس باراك أوباما طوق نجاة للتحرر من وعوده بمعاقبة النظام السوري مع خوفه من أن يضعه تصويت الكونغرس الأمريكي في نفس الوضعية التي لحقت بحليفه البريطاني بعد رفض مجلس العموم قرار توجيه ضربة عسكرية لسوريا. ووجد أصدقاء سوريا في هذا القبول بتدمير سلاح طالما اعتبره النظام السوري سلاح ردع استراتيجي مع العدو الصهيوني، إخلالا بالشرف القومي ورفعا للراية البيضاء قبل بداية المعركة. إذا اعتبر الرد السوري المتسرع والإيجابي على المبادرة الروسية بمثابة برهان على حرص النظام السوري على إنقاذ رأسه وتفضيله إحكام قبضته على شعب على تحقيق الردع الاستراتيجي مع عدوه التاريخي. ومما زاد في استهجان موقف النظام السوري أن المسؤولين الأمريكيين ما انفكوا يؤكدون في كل تصريحاتهم بأن الضربة المزمع توجيهها لسوريا ستكون »صغيرة« ومحددة الزمان والأهداف، ولذلك يعتقد أنه كان بإمكان الأسد امتصاص الضربات الأمريكية المختلفة في حجمها وأهدافها عن طبيعة الضربة الأمريكية للعراق في زمن الرئيس السابق جورج ولكر بوش التي كانت تتقصد إلحاق أكبر قدر من الدمار بدولة العراق وشعبها وإسقاط نظامها. وفي ظل هذه المعطيات كان صمود الأسد في وجه الضربة الأمريكية سيظهره في مظهر المقاوم البطل الذي أفشل الغزو الأمريكي والإمبريالي ونشر الذعر في أوساط الإسرائيليين. غير أن بشار الأسد يكون قد أدرك بأن الجماهير العربية لم تصبح متحمسة للدفاع عن أخطاء الطغاة وتقديس بطولاتهم الوهمية وتمجيد معاركهم الخاسرة، ومما زاد في انقسام رأي الجاهير العربية تجاه الضربة الأمريكية للنظام السوري أوحتى عدم معارضتها بأغلبية كبيرة كما حدث في حرب العراق، أن نظام بشار الأسد لم يستعمل سلاحه الفتاك ضد العدو الصهيوني الذي يحتل جزءا من الأراضي السورية في مرتفعات الجولان، واخترق طيرانه الحربي السيادة الجوية السورية عدة مرات وقنبل مركز أبحاث داخل الأراضي السورية أو قافلة سلاح كانت موجهة لعناصر حزب الله، ولكنه استخدم سلاح الجو والمدفعية وصواريخ سكود وحتى السلاح الكيميائي ضد معارضين سوريين. ولعل الطرف الذي خرج منتصرا في هذه الأزمة السورية هو الرئيس فلاديمير بوتين الذي أصبح يخاطب الشعب الأمريكي مباشرة عبر وسائل الإعلام الأمريكية ويشرح لهم مخاطر الضربة العسكرية الأمريكية ضد سوريا، فقال في صفحات جريدة (نيويورك تايمز) : »سوف تؤدي الضربة المحتملة التي قد توجهها الولاياتالمتحدة إلى سوريا رغم معارضة عدد كبير من الدول والشخصيات السياسية والدينية وضمنهم بابا الفاتيكان إلى سقوط عدد كبير من الضحايا الأبرياء وتصعيد العنف واحتمالية انتشار الأزمة إلى خارج حدود سوريا في المستقبل، كما يمكن لضربة عسكرية أن تؤدي إلى اندلاع موجة جديدة من الإرهاب وقد تقوض الجهود متعددة الأطراف التي تبذل من أجل تسوية المشكلة النووية الإيرانية والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي..« طبعا ليس هناك عربي شريف يتمنى الدمار أو إلحاق الأضرار بسوريا. ولكن الشعب السوري لن يربح كثيرا من استبعاد الضربة العسكرية إذا انحسرت النتائج في تقوية نفوذ دولة أجنبية (روسيا) على حساب دولة أجنبية أخرى (أمريكا) وتحولت الأزمة السورية إلى مجرد لعبة دولية، أو إذا أدت إلى تقوية نظام بشار الأسد لسحق فصائل المعارضة وسط لامبالاة أو مباركة دولية، غير أن الحل الدبلوماسي سيكون فاتحة خير وأمل إذا أدى إلى تحقيق المصالحة الوطنية وإقناع الأطراف المتصارعة بالجلوس إلى مائدة الحوار، وإذا نجح في تسريع عقد مؤتمر جنيف 2 الذي سيكون بداية الخروج من مستنقع الحرب الأهلية، وأن يأتي الحل متأخرا أحسن من ألا يأتي أبدا!