يجري اليوم (30 مارس 2014) في فرنسا الدور الثاني من الانتخابات البلدية وسط توقعات بقدرة حزب الجبهة الوطنية الواجهة السياسية لحركة اليمين المتطرف على تعزيز المكاسب الانتخابية الكبيرة التي حققها في انتخابات الدور الأول الذي جرى يوم الأحد الماضي (23 مارس 2014) والتي وصفت بالوثبة الانتخابية لليمين المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان إبنة الزعيم التاريخي للحزب جان ماري لوبان الضابط السابق في جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر والذي حول معاداة المهاجرين والتهم على العرب والإسلام وتمجيد العنصرية الفرنسية إلى برنامج عمل سياسي وإيديولوجية متكاملة. ولعل تصريح جان ماري لوبان القائل بأن »الانتخابات البلدية هي الحلقة الأولى في مسلسل سيقود إلى فوز مارين لوبان برئاسة الجمهورية في سنة 2017« لم يصبح مجرد مزحة سياسة أو تفاخر شعبوي ولكنه قراءة سياسية لواقع فرنسي ما فتئ ينزلق في دروب العنصرية والتطرف والتواطؤ مع الأفكار والتصرفات الإسلاموفوبية، وهذا ما يمكن أن نستخلصه من تعليق صحيفة كوييري ديلا سيرا الإيطالية الذي جاء حول صعود اليمين المتطرف في الدور الأول للانتخابات المحلية حيث كتبت »مثلما هو الحال في الأوقات العصيبة الأخرى في التاريخ الحديث، فإن الغيوم السوداء على أوروبا تأتي من فرنسا...«. وبالنظر إلى تطور الخريطة الانتخابية في فرنسا فإن الحزب الوحيد أو القوة السياسية الصاعدة هي قوة اليمين المتطرف تحت لافتة الجبهة الوطنية، وخصوصا بعد وصول الرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية سنة ,2007 وإذا كان ممثل الجبهة الوطنية في الانتخابات الرئاسية آنذاك جان ماري لوبان لم يتمكن من تخطي عقبة الدور الأول والتأهل إلى الدور الثاني الحاسم كما حدث في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 عندما استطاع جان ماري لوبان أن يتفوق على مرشح اليسار الفرنسي ليونيل جوسبان ويدخل في منافسة مباشرة على كرسي الرئاسة مع ممثل قوى اليمين الجمهوري جاك شيراك، ورغم أن هذا الإنجاز السياسي اللوبيني قد وصف في حينه ''بالزلزال السياسي'' أو ''الكارثة الوطنية'' فإن جان ماري لوبان استطاع رغم خسارته للرئاسيات بفارق كبير إلا أنه استطاع أن يفرض أفكاره على الطبقة السياسية الفرنسية وأن يدخل أطروحاته العنصرية المحرضة ضد المهاجرين في قلب المزايدات الانتخابية التي برع فيها نيكولا ساركوزي في حملته الانتخابية حتى تسائل البعض عما إذا كان في مقدور ساركوزي التفوق على لوبان في المتاجرة بورقة الهجرة وانعاش سوق الشعبوية السياسية؟ أثناء الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية سنة 2007 صرح المرشح جان ماري لوبان لقناة العربية الفضائية قائلا : »من الواضح أنه عندما يبدأ السيد ساركوزي والسيدة روايال في قول ما أقوله دائما للفرنسيين، فإن هؤلاء سيدركون أنهم خدعوا عندما قيل لهم بأن لوبان متطرف والدليل أن خصومه يعتمدون اليوم لهجته نفسها«. وبالفعل أصبحت قضية الهوية الفرنسية ومواجهة ظاهرة الهجرة والتخويف من الإسلام قضايا مركزية في الانتخابات الفرنسية، فقد انتقدت السيدة سيغولين روايال مرشحة اليسار في تلك الانتخابات عدم حفظ النشيد الوطني الفرنسي (لامارسيياز) من طرف لاعبي المنتخب الفرنسي لكرة القدم وأغلبهم ينحدرون من اصول مهاجرة كما عرض مرشح اليمين نيكولا ساركوزي بعقيدة المسلمين وعاداتهم في فرنسا وقال: »عندما تسكن فرنسا يتوجب عليك إحترام قوانينها، بمعنى ألا تلجأ إلى تعدد الزوجات وألا تذبح خروفا في الحمام...« وكانت هذه القضايا بضاعة انتخابية يسوقها اليمين المتطرف في المواعيد الانتخابية. هذه الاستراتيجية الانتخابية التي تبناها مرشحو الحزبين الرئيسيين في فرنسا حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليمين والحزب الاشتراكي الفرنسي اليساري في استقطاب أصوات اليمين المتطرف باستعارة بعض أطروحاته السياسية في الحملات الانتخابية أعطت نتائج عكسية على ما يبدو بحيث أصبح ناخبو اليسار واليمين المعتدل يهاجرون بشكل متزايد نحو أحضان اليمين المتطرف في أجواء مشحونة بدغدغة المشاعر الوطنية المتعصبة وتزايد الخيبات من الأداء السياسي لممثلي القوى السياسية التقليدية الكبرى وتسريب الصحافة للفضائح الأخلاقية والمالية أصاب سمعة المسؤولين عن الشأن العام بضربة موجعة كما تميزت الانتخابات المحلية الحالية في دورها الأول بامتناع عن التصويت مما يشكل رسالة غضب وعقاب للحزب الحاكم وزعيمه الرئيس فرانسوا هولاند. لقد رأت مارين لوبان في نتائج هذا الدور الذي جعل حزبها يفوز برئاسة احدى البلديات ويتصدر القوائم الانتخابية في عدد من البلديات والمقاطعات وخاصة في جنوبفرنسا ذات الكثافة العالية بالسكان ذوي الأصول المهاجرة وخصوصا المغاربية أنها تشكل بداية النهاية للقطبية السياسية بين اليمين واليسار وأن حزبها هو القوة التي تتقدم بسرعة لتصدر المشهد السياسي في فرنسا. إن فرنسا التي تعودت أن تستنفر طبقتها السياسية ومنابرها الإعلامية لقرع أجراس الخطر وتطلق العنان لنذر التحذير والتشاؤم كلما تعلق الأمر بفوز أحزاب إسلامية باعتبارها في توصيفها السياسي والإيديولوجي مهددة للتنوع الثقافي والتعددية السياسية والمسار الديمقراطي تتخلى عن حاستها النقدية وخطابها المتفجع أمام فوز قوى التطرف والتعصب في ربوعها، وتكتفي الصحف الفرنسية باعتبار ظاهرة صعود اليمين المتطرف وتوسع نفوذه في الحياة السياسية والاجتماعية مجرد صرخة احتجاجية من الناخبين وسحابة سرعان ما تنقشع أمام صلابة الحس السليم الفرنسي.