قلت لصاحبي: والآن بعد أن فرغنا من الحديث عن بعض شؤون الترجمة، حبذا لو عدنا إلى الرواية، فقد وعدنا أن نتحدث عن حميد عبد القادر، وإن شئت مزية أحفظها لك فلا تقحم روايته زالانزلاقس في حديثنا هذا، فحميد عبد القادر كما تعلم صاحب أيد بيضاء مجبول على الطيبة، وفي تلك الرواية ما يغلظ اللسان والقلم، ثم إنها لم تكن بشيء وروايته الثانية زمرايا الخوفس التي أسست لبدايته الفعلية في عالم الرواية، بحيث جبرت ما كسرته الأولى، والأعمال أحيانا بخواتمها وقد جب ززينوس من قبله. أقول ذلك وفي نفسي بعض ما حمل إليها من أن صديقي حميد عبد القادر غضب مني واستاء لشيء قلته في أول جلساتنا، ولكني أعود وأقول أنه ليس إلا عتاب الصاحب لصاحبه، وصدق السريرة ما يبقى آخرا. أما وقد قررنا أنا وأنت أن ننظر في مرايا الخوف، فلا ضير أن أشير أنني كتبت شيئا طيبا فيها فور صدورها، وقد حملني إلى ذلك ما تعلمه من صداقتي لكاتبها وحبي له، ورغم ذلك فلم أعمد إلى منافقته فيما كتبت، ولكني لم أكن صادقا كل الصدق، ولقد قيل أن أبشع أشكال الكذب أن تقول بعض الحقيقة وتكتم بعضها، لهذا أعود إليها اليوم في هذا الحديث بأكثر جدية، راجيا ألا يستاء صاحبي من بعض ما سأقول، وإن شاء أخذ زبدة حديثنا فيما ينفعه في لاحق رواياته، وقال فيما لم يعجبه وانتفع منه أنها فظاظة و غلظة وسوء قراءة وتقدير، فما هذا إلا مجرد رأي كما سلف. نزلت الرواية في طبعة الشهاب بحجم متوسط اقتصادي(جدا)، لم تراع فيها على غرار بعض إصدارات الدار جودة الورق المطبوع، ناهيك أن عددا كبيرا من النسخ نزلت إلى السوق منقوصة الصفحات، حتى بلغت في بعضها ثلاثين صفحة، كتلك التي بين يدي والتي اقتنيتها يوم قام الكاتب ببيعها بتوقيعه في مكتبة العالم الثالث، ورغم أنني اشترت سواها لقراءتها، فقد حافظت على الأولى التي وقعها لي وكتب فيها شيئا لطيفا. وقد بيعت النسخ المبتورة ونزلت إلى المكتبات دون أن تتفقدها الدار أو تسحبها من السوق، وهذا دون أن أقرأ شيئا في الصحف يشير إلى الأمر رغم جلله وخطورته على الكاتب الذي جهد في وضع مؤلفه، وعلى دار نشر نعرف عراقتها. ولكن هذا لا يقاس بما حملته الرواية من أخطاء رقن وإملاء ونحو، لا تليق بدار نشر مثل الشهاب يفترض فيها حد من الاحترافية، فلا يليق أن ينزل عمل إلى السوق أو يدخل المطابع دون أن يتم تصحيحه ومراجعته لغويا، ثم تدقيقه في الأخير، وهو عمل يخرج من يد الروائي إلى ناشره، من باب ثقة الأول بالثاني. وحبذا لو تعمل هذه الدار إلى إعادة طبعها في نسخة منقحة، مصححة في ورق أجود، فمن شأن هذا أن يعيد إلى الروائي بعض هيبته وقرائه ممن أضاعهم على عتبة الصفحة,64 وتعود ثقة القراء في دار الشهاب التي عودتنا أن تصدر بما يليق، فإن لم تفعل ولا أحسبها، فلا أقل أن تعتذر للكاتب والقراء معا. في الرواية نصيب جيد من السرد والحكي الممتع، مما يليق برواية تنتسب إلى الواقعية، مذهب دعا إليه حميد عبد القادر مثلما قرأت، وأحسب أنه قال به لأمرين، أولهما أنه مذهبه، والرجل في عرف الفطرة يدعو إلى دينه، والأمر الثاني أنه لاحظ مثلي، مأزق الرواية الحداثية وما آل إليه أساطينها من إفراط في ذاتية مبتذلة، وعبث عابث أفقد الرواية طعمها، فأصبحت كخاطرة مطولة تبدأ ولا تنتهي، أو أنها تبدأ لتبدأ، دون أن تحكي شيئا تستطيع عيناك أن تقعا عليه. و إن شئت أن ألخصها لك، فهي قصة شاب مثقف، مثالي يسمى نور الدين ويدعى نونو يعيش فترة التسعينيات بكل ما حملته من وزر، يقع في غرام فتاة تسمى نازلي، فتعبث بقلبه ثم تتركه لتتزوج من رجل موسر في الحال بعض الشيء، يتحول في اللاحق إلى إرهابي، يهجر مسكنه ويلتحق بالجبل مع زوجته التي تفقده لاحقا وتنجب منه. وأمام هجر حبيبته له، ينزوي نور الدين على نفسه أشهرا، مستسلما لانكساره، ثم يقرر أن يتخندق، وليس أمامه إلا خندقان: إما من أسماهم المؤلف الأئمة الجدد، وإما حراس الوطن والمدافعين عنه، وهكذا اختار أن يصبح شرطيا يحارب الإرهاب، وتشاء الصدف أو المقادير أن يلتقي نونو بنازلي حين سلمت نفسها، فيرأف لحالها ولحال ولدها، مجسدا رحمة القادر على من غرر بها. في الرواية أيضا ما لا يحصى من القصص التي أقحمها المؤلف في روايته، وإحالات وإقحام وقفزات تاريخية. وأنت ترى أنني استعملت ألفاظ الإقحام، الإحالة والقفزة، ولي في ذلك غرض، وترى أيضا أنني قلت ».. ما لا يحصى من القصص«، ولي في ذلك غرض آخر، وقد لاحظت ربما أنها المرة الأولى التي أوجز الرواية وألخص أحداثها، وأنت تعلم أني ممن لا يرى جدوى ذلك في قراءة أو نقد، ومع ذلك فقد لخصت رواية عبد القادر، مخالفا رأيي في أن من يريد أن يعرف موضوع الرواية، أشخاصها وأحداثها فما عليه إلا أن يقتنيها، فلهذا الغرض يجهد الكاتب والناشر، ولهذا أيضا تطبع الكتب أيضا، ومع ذلك قمت بتلخيصها لأن لي غرض ثالث سأظهره لاحقا. وكل هذه الأغراض غايتها أن تعكس رواية مرايا الخوف في مرآة التشريح بما يليق بها وهي أولى روايات حميد عبد القادر، وقد أتعمد أن أقول أنها أولى رواياته لأنني ممن ينكر الانزلاق عليه، ولا أراها إلا كما قلت في أول جلسة، مجرد مشروع رواية مات في رحم الفكرة، أما دفاع الكاتب عنها واستعداله النقد فيها، فهو مشروع، ما جاز أن لا يتنكر أب لولده وان كان أكثر الخلق فسادا، ولكن أن يواسيه بعضهم فيها ويقولون أنها رواية ظلمت، فهذا ما لا يقبل، وهو ما قرأته من كتابات المحابين حين ساووا بين الانزلاق ومرايا الخوف، وهم بذلك لم يحسنوا إلى الروائي بقدر ما أساءوا إليه، وهم نفسهم من وصف هذه الرواية وقالوا أنها رواية تاريخية، وهم بالنسبة إلي كمن يكذب في تاريخ ميلاد رضيع ثم ينسبه إلى غير أبيه، فحميد عبد القادر الروائي ولد مع مرايا الخوف، وكنا قد رأينا علامات الحمل في »حكايات مقهى ملاكوف الحزينة«، أما ما تم وضعه عام 98فلم يكن إلا إجهاضا إراديا قام به طبيب جزار اسمه »الأدب الاستعجالي«. أقول ذلك ولي ألف حجة وحجة، ولكنها في مجملها مما سيتحامق به بعضهم على حميد عبد القادر، حقدا عليه أو حسدا له، وهو بالضرورة مما قد يصنع الفجوة بين الصاحب وصاحبه، لهذا سألتك ألا نخوض في »الانزلاق« لا في هذا الحديث ولا في غيره، إلا أن تجمعني الفرصة بصديقي حميد فأسر له برأيي فان رأى أن أنشره نشرته، وإلا تركته عندي، اقتنع الناس أم لم يقتنعوا. قاطعني صاحبي: »هب أني وافقتك الرأي وقلت أن هذه الرواية من أطلقت خيل حميد عبد القادر في ساحة الرواية، فأي نتيجة بعد هذا؟«. قلت: لا شيء غير وضع النقط على الحروف، أو كما اعتدنا أن نقول »مسألة مبدأ وحسب«، وهو أمر لا يهمنا اليوم، ما دمنا نتناول في حديثنا هذا مرايا الخوف، ولنبدأ إذا شئت من أولها، وأقصد العنوان، فأنت ترى أن الروائي جمع بين نقيضين قد لا ينكشفان لأول وهلة، ذلك أن من عادة المرايا ألا تعكس غير الشيء المادي ذي أبعاد وشكل، فأنت حين تنظر في المرآة قد ترى وجهك وجسدك وأطرافا منه، ولكنك لن ترى أبدا حبك أو كرهك أو شفقتك أو غيرها من مشاعر وأحاسيس، فللجسد أبعاد تعكسها المرايا، أما تلك الأمور الكامنة فيما نحب أن نسميه روحا، لا يعكسها شيء تقدر على الإمساك به، ومن هنا جمع الروائي بين نقيضين، وقد قيل أن أجزل القول ما جمع بين ما لا يقبل الجمع، وهذه تحسب للكاتب، خاصة وأن العنوان يعبر بشكل ظاهر وجميل عن موضوع الرواية، أو لنكون أكثر دقة: يجمع العنوان الشعور المنسحب من أول الرواية إلى آخرها، وأقصد الشعور باليأس والضياع، فالرواية مهما اجتهدت في قراءتها، مستنقع من مشاعر سوداوية تتقاطع في حالات ضياع ويأس، تجسدهما شخوص الرواية، بدءا بزينو ونازلي وانتهاء لغيرهما من شخصيات هربها حميد عبد القادر من تاريخنا الغريب البائس والمقنع، ومرورا على شخصيات الكمبارس التي صفها حميد صفا في روايته: العشيقان، الرجل ذو اللباس الأفغاني، امرأة الحايك، الفتاة ذات السروال الضيق، الشاب المتعرق صاحب اللحيلة الطويلة والمسك والسواك، والدا الراوي وأخوه المريض، والدة نازلي ذات الأصول التركية، الأمام القصير شبه الأمرد..... ما يهمنا أن عبد القادر أحسن اختيار عنوانه وأن هذا يحسب له، كما يحسب له أيضا اختياره لاسم البطل، فأنت ترى أن بطل الرواية اسمه زين الدين، ولو دققت في الرواية جيدا، لأدركت أن اختياره لهذا الاسم لم يكن بالصدفة، ولو كان كذلك فرب صدفة خير من مليون قصد، ذلك أن أحداث الرواية تعالج في ظاهرها فترة التسعينيات، وفي معيار تلك الفترة، يمكن أن يوصف الرجل المثقف على شاكلة زينو بأي وصف، إلا أن يوصف أنه ززين الدينس، فلم يكن اعتداله، علمه، ثقافته، سلامة دينه أو فطرته، تقديمه للعقل ولسان المنطق، لم يكن كل هذا من فضائل المسلم المتدين وصفاته بحسب معايير من سماهم المؤلف الأئمة الجدد، إنما كان كل ذلك من مبررات القتل والذبح، ومن صفات الكافر الرافض لحكم الله.. أنا أثق أن حميد عبد القادر لم يعمل الصدفة في اختيار اسم بطله، وأثق أنه كان من الفطنة أن تعمده، مظهرا للقارئ الفطن موقفه من كل القصة قبل أن تبدأ أو قبل حتى أن ترسو النية في ميناء الفكرة. في مقابل ذلك فقد خانته الفطنة حين اختار اسم حبيبة ززينوس وجعلها تسمى زنازليس، فهذا اسم لو اختاره بهاء الطاهر في قصة تحدث في مصر أو بين مصريين لمسه بعض اللوم، ولو اختاره حنامينة لقصة تحدث في سوريا أو بين سوريين لتجاوز النقاد عنه تكرما، فهو اسم لا يليق إلا بقصة تركية أو تحدث بين أتراك، ولعلك تقول لي أنه اسم تحمله بعض الجزائريات، أو تقول لي أن حميد عبد القادر قد علل اختياره لاحقا بأن جعل لنازلي عرقا تركيا من أمها، إن كنت ستقول ذلك فسأجيبك عن الأولى أن الأسماء في أي عمل امتداد للعمل وعامل مؤثر فيه، ولا يمنع أن تحمل بعض الجزائريات هذا الاسم أن نقول أن عبد القادر لم يخطئ في اختياره، فمرايا الخوف بكل ما لها وما عليها، تميزت بشيء أحسد الكاتب عليه، هو أصالة أحداثها وموضوعه، ولا أقصد من الأصالة المفهوم الشائع، إنما أقصد أنها حوت زخما عظيما من السرد والقصص والأشخاص والحوار، ما يمكّن أي ناقد بارع أو أي قارئ سطحي- على السواء- من القول أن الرواية بموضوعها وأحداثها وشخصياتها وكاتبها جزائرية بشكل صرف، دون أن يداخل هذا الحكم أي شك مهما ضؤل، وهو أمر أحسد الكاتب ويحسده فيه غيري ممن حمل سفر الكتابة. أما عن أنه جعل لنازلي أصولا تركية، أقول أن غاية الكاتب من تلك الأصول لم تكن لتبرير اختياره لاسم العشيقة، بل لشيء آخر سأظهره لاحقا. ومهما يكن فليس كل ذلك إلا سهوا على حسب تقديري.غير أن الذي شد انتباهي في أول الرواية هو إدراج الكاتب لوقائع من التاريخ أو لنكون أكثر دقة لوقائع ذات علاقة بالتاريخ. لم يشد انتباهي هذا الإدراج بحد ذاته ولكن طريقته في ذلك، وهي طريقة تمت بسلاسة في بعضها أضافت للرواية، وبعنف يشبه زالإقحامس في بعضها الآخر أساء لها، ولعلك رأيت كيف انتقل الراوي في حديثه من واقعه الكئيب والحزين المفجوع بمخالفة نازلي لموعدها معه إلى الحديث عن العقيد بيليسيي، بمناسبة مروره بأحد شوارع العاصمة، أو عن العقيد أرغو مستغلا نفس المناسبة. لقد كان إدراجه التاريخي بمنتهى العفوية والذكاء، بحيث لا يشعر القارئ بأي حركة عنيفة في نسق الرواية، والأهم أنه لا يشعر بخروج الرواية عن سياقها، بدليل أنه استطاع أن يعود إلى هذا السياق بدون جهد يذكر، أي أن القفزة كانت جيدة متوازنة، والسقوط كان في مثلها جودة واتزانا، ولكن الروائي في غبر هاذين الإدراجين لم يكن بنفس الذكاء ولا بذات العفوية، بدليل أنه لم يستطع لاحقا أن يجد المناسبة الملائمة لاراجاته التي اتسمت بسبب ذلك بعنف يشعر به القارئ في بدايتها، كما يشعر بالضياع معها، وقد يتيه فيها لأنها لم تعرف رجوعا سلسا إلى الموضوع أو إلى سياق الحديث السابق لها، فيجد القارئ نفسه مجبرا على الخوض في أقاصيص تاريخية بالكاد يربطها شيء بالقصة، وأحيانا لا يربطها شيء البتة، لذلك قلت في أول الحديث أنها اقتحامات تاريخية لسياق القصة، وهو أمر لم يثر بقدر ما أفقر الرواية. ولعلك ستسألني عن ضرر ذلك، فأجيبك أن هكذا عمل يشتت عقل القارئ بحيث يجعله ينصرف عن الرواية والغرض منها، إلى ما دونها من فقرات وسصفحاتز اعتراضية، كان من المفروض أن تثريه لو أعمل الكاتب فيها بعض الذكاء الذي أعمله في الادراجين السابقين، لأن الغرض منها أصلا هو تدعيم أعمدة الرواية وليس إضعافها، ولعل طول هذه الادراجات وتشعب أحداثها، ساهما أيضا في تشتيت فكر القارئ، حتى يخال أنها قصص بحد ذاتها، ورغم ذلك فلو حاول الكاتب أن يقاطعها في شيء مع سياق الرواية لاحقا لعوض بعض الشيء ما فاته، ولكنه أغفل ذلك أيضا، ولعلك ستجد له عذرا في أن تقول مثلا، أن الهدف من كل تلك الادراجات التاريخية أو شبه التاريخية، هو وضع مرجعية تفسيرية لحالتي اليأس والضياع اللتين يعيشهما البطل، وأيضا لتفسير حالة العنف التي تميز أجواءه، وبأكثر دقة حاول من خلالها تقديم تفسير تاريخي لكل أجواء الرواية ككل.. إن كنت ستبرر ذلك على هذا النحو، فسأجيبك بما يدحض تبريرك هذا، ولكن ليس اليوم وقد داهمنا الوقت، إذ لا بد من ساعة أخرى مع حميد عبد القادر.