الأسرة هي اللبنة الأساسية في بنية المجتمع، ولذلك أولى الإسلام أهمية بالغة وعناية كبيرة للأسرة ومكوناتها من ناحية التوجيه والتشريع، وحرصت الجزائر باعتبارها بلدا مسلما ينص دستورها على أن الإسلام هو دين الدولة على سن قوانين خاصة بالأسرة، وكان قانون الأسرة الصادر في سنة 1984 1404ه إنجازا جزائريا للدولة المستقلة لوضع حد للفوضى في قطاع القضاء في مجال الأحوال الشخصية، ولكن هذا القانون اعتبر من طرف التيارات التغريبية والجمعيات النسوية مجحفا في حق الأسرة، وأخذ عليه استناده إلى نصوص الشريعة الإسلامية، ورغم التعديلات الكثيرة والعميقة التي أدخلت على هذا القانون وتعويضه بقانون أسرة جديد تمت المصادقة عليه في مجلس الوزراء سنة 2005 ما زالت العديد من الجمعيات النسوية ترفع مطالب إعادة النظر في قانون 2005 وتعديله، بل تصل مطالب بعض الجمعيات والحركات النسوية والشخصيات السياسية إلى الدعوة إلى إلغاء قانون الأسرة بصفة كاملة. وفي هذا الإطار كانت لويزة حنون زعيمة حزب العمال قد تعهدت خلال حملتها الانتخابية في رئاسيات 17 أفريل2014 والتي حلت فيها في المرتبة الرابعة، بإلغاء قانون الأسرة في حالة فوزها وتعويضه بقانون مدني يضمن المساواة الفعلية بين الرجل والمرأة في جميع المجالات بما في ذلك نصيبها في الميراث، وقالت إنها تعتمد على اجتهاد رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السابق الراحل الدكتور عبد المجيد مزيان. وبالفعل كانت للدكتور عبد المجيد مزيان الذي وافته المنية في مطلع عام 2001 آراء غير متقيدة بضوابط وشروط الاجتهاد وكما حددها علماء الأصول ومنها رأيه الذي يقول: »إن الإرث تابع لوضعية اجتماعية واقتصادية، وإذا حدثت المساواة في العمل بين المرأة والرجل، حينذاك يمكن أن ننظر إلى الإرث نظرة جديدة ولكن مطابقة للشريعة الإسلامية«. ومن الغريب حقا ألا يكون الدكتور عبد المجيد مزيان مطلعا وعارفا بالقاعدة التي تقول »لا اجتهاد مع النص« وقد وردت آيات محكمة المعنى قطعية الدلالة في سورة النساء على أحكام الميراث وتقدير المواريث وتحديد نصيب الذكر والأنثى وطبيعة المستحقين للميراث، وهي من آيات الأحكام ولذلك عندما يقول الدكتور عبد المجيد مزيان إن الإرث تابع لوضعية اقتصادية واجتماعية فإن ذلك يعتبر إرضاء لنصوص القوانين الوضعية والمعاهدات الدولية وليس لروح الشريعة الإسلامية. وربما لهذا السبب كانت آراء الراحل الدكتور عبد المجيد مزيان تلاقي تأييدا وإعجابا من طرف التيار الرافض لجعل الشريعة الإسلامية مصدرا للقوانين، وتعتبرها الحركات النسوية آراء عصرية وتقدمية. ولا شك أن الدكتور عبد المجيد مزيان كان رجل فكر وسياسة من العلماء البارزين في مجال ترقية الحوار بين الحضارات، ولكنه لم يكن عالم دين بالمفهوم المتعارف عليه بين علماء الشريعة أو فقيها يمثل مرجعية في الفتوى كما كان- على سبيل المثال- الراحل الشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الأسبق من سنة 1972 إلى سنة ,1988 وإن كان كلاهما حافظا لكتاب الله تعالى. وكذلك كان عبد الرحمن ابن خلدون مشهورا كمؤرخ ومؤسس لعلم الاجتماع، رغم أنه كان قاضيا للمالكية في مصر، ولكنه لم يكن معروفا ومعتمدا مثل معاصره الحافظ ابن كثير في مجال العلوم الشرعية. إن عامل المرونة المتوفر في أحكام الشريعة الإسلامية التي تتسم بالقدرة على مسايرة التحولات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لا يعني تخلي المسلم عن الالتزام بنصوص القرآن والسنة أو التعسف في تحميل تلك النصوص والأحكام ما لا تحتمل بداعي الاجتهاد والتجديد. وفي هذا الإطار ما زلت أتذكر لقائي بالمهندس السوري الدكتور محمد شحرور الذي زرته في بيته الفخم في دمشق في سنة 1997 رفقة كل من الشاعر الأديب عز الدين ميهوبي رئيس المجلس الأعلى للغة العربية ، والدكتور صالح بلعيد الأستاذ بجامعة تيزي وزو، والإعلامية الأستاذة فتيحة بوروينة رئيسة مكتب صحيفة الرياضبالجزائر. وقد استقبلنا والحق يقال بكل حفاوة وكرم وتواضع. وكانت شهرة الدكتور محمد شحرور قد تجاوزت القطر السوري وأصبح يقدم على أنه مجدد للفكر الإسلامي ومن المجتهدين المعاصرين في الشريعة قد ضمن آراء ه المستحدثة في مؤلفات أشهرها: (الكتاب والقرآن)،(الإسلام والإيمان نحو أصول جديدة لفقه إسلامي، غير أن تلك الآراء أثارت الكثير من الجدل والرفض والرد في الأوساط الفكرية والفقهية الإسلامية، يقول الدكتور محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن): »لقد بحثنا في فصل الحدود موضوع الإرث، وبينا أن آيات الإرث عبارة عن آيات حدية لا حدودية، ولعدم الالتباس قال بعدها تلك حدود الله حيث أعطى الله للأنثى نصف حصة الذكر حد أدنى، وهذا الحد الأدنى في حالة عدم مشاركة المرأة في المسؤولية المالية للأسرة، أما في حالة المشاركة فتنخفض الهوة بين الذكر والأنثى حسب المشاركة وما تفرضه الظروف التاريخية«. وقد تدخلت في النقاش الذي دار بيننا وبين الدكتور محمد شحرور وقلت للدكتور شحرور: »كيف يمكنك القول بأن حصة الأنثى في الإرث يمكن أن تساوي حصة الذكر، مع أن آية الإرث واضحة لقول الله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }النساء:11 فقال: »توصلت إلى علم مواريث جديد من خلال تفسير عصري للقرآن وبتطبيق نظريات المجموعات والتحليل الرياضي على آيات المواريث« وبدأ يشرح على الورق طريقته الحسابية التي أوصلته إلى إيجاد قيمة متساوية في الإرث بين الذكور والإناث، وعقبت عليه بالقول: »لست متخصصا في الرياضيات ،ولكني أعرف أن السنة النبوية هي أفضل شارح ومبين للنصوص القرآنية وإذا كانت عملية التوريث أو تقسيم الإرث قد تمت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالطريقة التي نعرفها اليوم ويقرها جمهور الفقهاء ويفهمها عموم المسلمين ،ولم ينكر ذلك، ولم يأمر برفع حصة الأنثى في القسمة، فمعنى هذا أن آيات الإرث لا تحتاج إلى اجتهاد أو تفسير جديد«. فرد علي بما معناه أنه لا يعطي اعتبارا للسنة النبوية ولا للحديث النبوي، لأن السنة النبوية - هي في رأيه - إجراءات تنظيمية قام بها النبي كقائد للدولة في عصره، كما أن مفاتيح فهم القرآن الكريم موجودة داخله، وليست متأتية من خارجه. هذا الحديث جعلني مقتنعا بأن الاجتهاد أو التجديد الذي لا يلتزم بنصوص القرآن والسنة المصدرين الأساسيين لفهم الإسلام ولا ينضبط بشرط الاجتهاد المعروفة يصبح مجرد لغو وافتراضات ظنية يحكمها الهوى. ولهذا تنقسم اتجاهات الحركات النسوية التغريبية إزاء قانون الأسرة الذي يستند إلى نصوص الشريعة بين الدعوة إلى إلغائه لأنه يعتبر منظومة قديمة ورجعية وغير عادلة، وبين المطالبة بتحكيم اجتهادات مضللة وغير منضبطة بشروط الاجتهاد الحقيقية، لإعطاء الانطباع بأن المقصود ليس هو رفض احكام الشريعة ولكنه ببساطة رفض تفسيرات قديمة لنصوص الشريعة، وعندما تنتشر مصطلحات مثل تقديم منح للأمهات العازبات، وإنشاء صندوق للمطلقات، فإن ذلك يعتبر مؤشرا على إمكانية اللجوء إلى إفراغ قانون الأسرة من أحكام الشريعة الإسلامية!