خلال حفل انتظم بقصر الإليزيه في النصف الثاني من الستينيات التقى الرئيس شارل دوغول بالسفير الجزائري في فرنسا آنذاك، وقال له بأنهم ينتظرون في باريس أول زيارة لرئيس الجمهورية الجزائرية. وأبلغ السفير الرئاسة الجزائرية بمضمون المقابلة، وطُرح التساؤل عن مستوى الزيارة الذي يتوقعه الفرنسيون، وفهم آنذاك أن الإليزي يريد زيارة عمل يلتقي فيها رئيسا البلدين لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك، طبقا للتعبير المألوف. وقال الرئيس هواري بو مدين يومها: الرئيس الجزائري لن يدخل باريس إلا من زالباب الواسعس، وهو ما أوضحه السفير الجزائري للسلطات الفرنسية، وكان مضمونه أن أول زيارة يجب أن تكون زيارة رسمية مكتملة العناصر، ومن أهم العناصر استقبال الجنرال دوغول للرئيس في مطار باريس، وأداء النشيد الوطني الجزائري مع زالمارسييزس، ومرور الوفد الرئاسي في موكب رسمي عبر الشانزيليزيه لوضع باقة الزهر المعتادة على النصب التذكاري لضحايا الحرب تحت قوس النصر المشهور. وسمع السفير تبريرات قدمها الفرنسيون، وتضمنت تخوفات من ردود فعل أي زيارة رسمية على بقايا فرنسيي الجزائر وعلى الحرْكى (الجزائريون الذين جندهم الجيش الفرنسي لمحاربة جيش التحرير) والذين يمكن أن يتسببوا في حدوث اضطرابات تعجز أجهزة الأمن عن التحكم فيها. ولم يزر الرئيس بو مدين، كسلفه الرئيس أحمد بن بله العاصمة الفرنسية على الإطلاق. وينتقل الرئيس بو مدين إلى رحاب الله، ويتولى رئاسة الجمهورية قائد الناحية العسكرية الثانية العقيد الشاذلي بن جديد، الذي تعمد أن يبدأ نشاطاته الخارجية بزيارة للوطن العربي في أبريل ,1980 تبعتها زيارة دامت نحو أسبوعين لعدد من البلدان الإفريقية، ثم زيارة أخرى لعدد من الدول الآسيوية. وجاء الدور على أوربا، وكان السؤال: بأي بلد نبدأ ؟ ولأن العلاقات مع فرنسا ليست كأي علاقات أخرى، فقد اتخذ الرئيس الجزائري قرار البدء بزيارة لبلجيكا، مع التفكير في زيارة عمل لفرنسا. كان الرئيس فرانسوا متران أذكى من أن يتجاهل الحساسية الجزائرية تجاه المستعمر السابق، وكان يريد أن يحتوي الرئيس الجزائري الجديد بمبادرة تلطف الأجواء بين البلدين، وهكذا، وبرغم أن الزيارة كانت زيارة عمل فقد توجه بنفسه إلى مطار شارل دوغول لاستقبال الرئيس الجزائري، واستمع الرئيسان معا للنشيد الوطني للبلدين. وفي العام التالي يقوم الرئيس الشاذلي بزيارة رسمية لفرنسا، اكتملت فيها كل العناصر الرسمية، بما في ذلك وضع باقة من الزهر على قبر الجندي المجهول، مع الحرص ألا يصافح الرئيس أي رمز من رموز الجيش الفرنسي في الجزائر، حيث يجتمع قدامى المحاربين الفرنسيين بأعلامهم الرمزية للترحيب بالرئيس الزائر. وبدت الجرعة قوية على عديد من الاتجاهات الفرنسية، التي أحست بأن متران خضع أكثر من اللازم للرئاسة الجزائرية، وحاول البعض تقديم باقة الزهر على أنها، على العكس مما قيل، تقدير من الرئيس الجزائري للضحايا الفرنسيين، وهو ما يُحسب للرئيس الفرنسي. وتناولتُ يومها مع الصحفي الفرنسي بول بالطا بعض جوانب الزيارة، وتعمدتُ الإشارة إلى قضية قبر الجندي المجهول، والتي كنت أعرف أنها كانت، منذ الستينيات، عنصرا رئيسيا تحرص الجزائر على التمسك به، ولم يكن الأمر مجرد إجراء بروتوكولي بدون خلفيات. وقلت لبالطا بأنه إذا كانت الرفات تحت قوس النصر هي فعلا لجندي مجهول فإن هذا الجندي يمكن ألا يكون فرنسيا على الإطلاق، فقد حارب على الأرض الفرنسية ومن أجل تحرير فرنسا مئات الآلاف من الجزائريين والمغاربة والسنغاليين والعديد من أبناء المستعمرات الفرنسية. يعني ببساطة، قد تكون الرفات في القبر لمجند جزائري مات من أجل فرنسا. وكانت هذه في واقع الأمر هي الرسالة التي كانت الجزائر تريد إيصالها للمجموع الفرنسي، سلطة ومعارضة وصحافة ومجتمعا مدنيا، ليفهم الجميع بأن الجزائريين كانوا شركاء في النصر، وأنهم لقوا جزاء سنمار في مايو ,1945 عندما قمعت بالحديد والنار مظاهرات سلمية كانت تطالب فرنسا بالوفاء لتضحياتهم من أجلها. طاف كل هذا في مخيلتي وأنا أتابع الحفل الضخم الذي نظمته فرنسا في موقع ويستريهام على شاطئ نورماندي في ذكرى الإنزال الشهير، الذي كان بداية النهاية بالنسبة للرايخ الثالث ولأحلامه في السيطرة على العالم. وشارك في الاحتفال نحو عشرين رئيس دولة وحكومة، بدءا من ملكة بريطانيا وانتهاء بآخر الرؤساء المنتخبين، وهو الرئيس الأوكراني. ولم يكن في المنصة الشرفية رئيس إفريقي واحد، يُذكر المحتفلين بالثمن الهائل الذي دفعه أبناء إفريقيا من أجل تحرير القارة العجوز، وبالعدد الكبير من الضحايا المسلمين من مجندي المستعمرات السابقة. وأمام المنصة الشرفية كان هناك 18 محاربا قديما اختيروا لتلقي التكريم بالنيابة عن المئات من زملائهم الأحياء، ولم يكن من بينهم مغربي واحد أو جزائري أو سنغالي أو ماليّ. وإذا كان من العسير أن يُختار رئيس إفريقي ليمثل الباقين، لأسباب تتعلق بالحساسيات المألوفة عند الدول المتخلفة، فإن اختيار عدد من المحاربين القدامى كان أمرا بالغ السهولة، والقوائم بأسمائهم موجودة في كل السفارات الفرنسية في بلادهم، ولكن الجحود كان سيد الموقف. ويلقي الرئيس فرانسوا هولاند خطابا دسما مشحونا بالتعبيرات البلاغية، قدم فيه التقدير والاحترام لكل الدول الأوربية، بما في ذلك كيانات لم تكتوِ بنار الحرب ولم يدفع أبناؤها جزءا من ثمن التحرير وضريبة الحرية، مثل إمارة موناكو ولوكسمبورغ. لكن الرئيس الفرنسي لم يتفضل بكلمة واحدة تشيد بتضحيات أبناء المغرب العربي وشباب القارة الإفريقية، الذين عرفت أوربا تضحياتهم في حربين عالميتين، وما زالت رفات الكثيرين منهم مبعثرة خصوصا عبر التراب الفرنسي والإيطالي، وما زال بعض المعطوبين يعيشون في بلادهم بفتات معاشات تدفع لهم بما يقترب من الصدقة. وللتذكير فإن الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بله رحمه الله كان من أبطال معركة كاسينو في الحرب العالمية الثانية، وتلقى على مساهمته ميدالية من الجنرال دو غول شخصيا، على غرار كثيرين من أبناء المغرب العربي. ويزور الرئيس الفرنسي مع ضيفه باراك أوباما مقبرة الضحايا الأمريكيين للترحم عليهم، وتظهر لقطات التلفزة الفرنسية، بشكل متعمد واضح، قبورا عليها نجمة داوود، إشارة لمن قتلوا من اليهود، ولم تفكر السلطات الفرنسية في إيفاد أحد المحافظين أو الولاة ليترحم على قبور عشرات المئات من المسلمين الأفارقة الذين ماتوا وهم يدافعون عن التراب الفرنسي، ويساهمون في تحريره من السيطرة النازية. ويقام بعد الاستعراض احتفال شارك فيه مئات من الشباب، ورأينا فيه عددا من أصحاب البشرة الإفريقية قاموا بدور الكومبارس (Figurants)، وكان هذا هو الوجود الإفريقي الوحيد. وأعتقد أن الأمر ليس مجرد نسيان بروتوكولي أو سهوا سياسيا، وإنما كان السبب في أننا أصبحنا ممن يطلق عليهم تعبير: إذا غابوا لا يفتقدون وإذا حضروا لا يستشارون. أصبحنا جميعا، برغم الأناشيد الإعلامية الغبية التي تمجد بلداننا وملوكنا وقادتنا، مجرد أكثرية كغثاء السيل، لمجرد أن شجاعتنا لا تبرز إلا في التجبر على الإخوة والرفقاء والجيران، وذكاؤنا لا يتجلى إلا في الكيد للأشقاء والزملاء. لهذا يحتقرنا العالم كله، ولا يتذكرنا إلا عندما يبحث عن أسواق جديدة لبيع مصنوعاته ولترويج أفكاره، أو عندما يحاول تجنيدنا لمحاربة إرهاب كان هو من صَنَعه، أو تحويلنا إلى شرطة برية وبحرية تحمي بلاده من الهجرة غير الشرعية، التي تنطلق من بلدان تعيش مأساة الجوع والفقر والمرض نتيجة للاستعمار القديم والجديد، مما يعني أن الاستعمار نهب ما استطاع نهبه ثم ترك بقاياه البشرية لتضمن نفوذه الدائم ومصالحه المتزايدة. وهكذا يعيش المسلمون اليوم، وغالبا نتيجة لحماقة بعض قياداتهم، وضعية لا تختلف عن وضعيتهم خلال عهد محاكم التفتيش، ويضطر بعضنا، عندما يحاول تحليل أحداث معينة، إلى التأكيد بأنه لا ينتمي لأي اتجاه إسلامي، فقد أصبح إسلامنا عارا كحمل سفاح. وأتذكر تعبيرا قاله رفيق نسيت اسمه: إن أمة محمد هي اليوم أمة مهند. وأقول لقيادات أمة ضحكت من جهلها الأمم: استقيموا أو استقيلوا....يرحمكم الله.