بألم وحسرة كبيرين، عاد بنا المحاربون القدامى إلى ما وصفوه ب''سنوات الخراب''، عندما أجبرتهم السلطات الاستعمارية، آنذاك، على ترك فلذات أكبادهم وعائلاتهم لخدمة الجيش الفرنسي، احتفظوا خلالها في ذاكرتهم الجماعية بأحداث ووقائع تجسد الانتهاكات الصارخة التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في حق الجزائريين العزّل، انطلاقا من حرمانهم من نعمة ''حرية الاختيار''، لتواصل فرنسا اليوم، وبعد 05 سنة ''إهانة'' هؤلاء، بعد تركهم ينتظرون معاشاتهم لأزيد من 7 سنوات، افترشوا خلالها الرصيف المحاذي للسفارة، وارتموا فوق أرضية الحديقة المجاورة، ومنهم من توفي ومنهم من ينتظر. ''الخبر'' وفي زيارتها لمقر مصلحة قدامى المحاربين لدى سفارة فرنسا بالعاصمة، رصدت معاناة هؤلاء الذين قرّروا افتراش الأرض بصفة يومية ومنذ الساعة السابعة صباحا، في انتظار الإفراج عن ''بطاقة قدامى المحاربين''، عسى أن تمكنهم قبل وفاتهم من تعويض السنوات التي قضوها في مواجهة الموت والإعاقة الأبدية، إذ تروي تجاعيد هؤلاء قصة معاناة طويلة مع العنصرية و''الإرهاب'' الذي تعرّضوا له تحت إمرة القوات الاستعمارية، لتتواصل بعد 50 سنة من الاستقلال فوق تراب وطنهم الأم. يجتمع أزيد من 200 مواطن، يوميا، أمام مصلحة قدامى المحاربين التابعة للسفارة الفرنسية، يسترجعون الذاكرة الجماعية، ويتبادلون الحديث حول الصعوبات والمشاكل التي يواجهونها بحثا عن تعويضات، قد تمكّنهم من تجاوز الضرر الذي تعرّضوا له في صفوف الجيش الفرنسي، بعدما فرض عليهم المستعمر، آنذاك، ترك فلذات أكبادهم وأهاليهم في سن مبكرة، للالتحاق ''قسريا'' بصفوف الجيش الفرنسي. اختطافات بالجملة وحسب شهادات من زارتهم ''الخبر''، فمنهم من اختطف من منزل والديه وسنه لا يتعدّى 16 سنة، ومنهم من اقتيد وسط أبنائه الرضّع وسنه لا يتجاوز 20 سنة، ليقضوا سنوات في القتال ضمن صفوف القوات العسكرية الفرنسية، وصفها لنا هؤلاء بسنوات ''الجمر''، حيث أكدوا أنهم ''عرفوا معنى هذه الكلمة قبل أن يعرفها جيل التسعينيات بسنوات''. حدثنا العم تيكيالين عبد القادر أنه اقتيد مكبّلا بأغلال المستعمر من منزل والديه الواقع بضواحي خميس مليانة، وسنّه لا يتعدى 18 عاما، في ليلة باردة من سنة 1957، حيث أجبر على الانضمام إلى صفوف الجيش الفرنسي رفقة العديد من الشباب الجزائري، الذين كانوا يستعدون للالتحاق بصفوف الثورة التحريرية. ويروي عمي عبد القادر كم عانى هؤلاء الشباب من الاضطهاد وانتهاك للحقوق، بما لا يسمح لهم أن يطالبوا بحرية الاختيار، مشيرا إلى أن ''عددا كبيرا من الشباب ممن رفضوا الالتحاق بالجيش وحاولوا الهروب من الثكنات، واجهوا عقوبة الإعدام رميا بالرصاص، دون أي رحمة بهم من طرف الجيش الفرنسي''. وأكد لنا العم عبد القادر أنه أودع ملفه لدى المصلحة منذ 7 سنوات كاملة، إلا أنه لم يتمكن لحد اليوم من الحصول على بطاقة ''قدامى المحاربين''، التي قد تمكّنه، بعد سنوات أخرى، من الحصول على حقه في المنحة المقدّرة ب300 أورو كل 6 أشهر، بالإضافة إلى 30 مليون سنتيم كمنحة نهاية الخدمة. نصيب في الهند الصينية يروي السيد بونوار عبد القادر، 85 سنة، ل''الخبر''، بحسرة كبيرة، رحلته التي لم تكن يوما نزهة إلى الهند الصينية التي قضى بها 4 سنوات كاملة، بعدما اقتيد إليها وسنه لا يتعدى 24 سنة. عرف الميدان ومخاطره، بعدما اختار العدو الفرنسي، آنذاك، ترك الصفوف الأمامية للجنود الجزائريين، ليتلقوا بصدورهم أولى رصاصات مواطني الهند الصينية، الذين كانوا يملكون، حسبه، نفس حرارة الجزائريين نظرا لشغفهم الكبير لتحرير وطنهم. وقال إن استغلال الفرنسيين بلغ أقصى مستوياته، بعد وضع الجنود الجزائريين في أماكن الحراسة بالمدن والقرى، ما يجعلهم مستهدفين بصفة أساسية من طرف الجنود، حيث أكد أنه الناجي الوحيد من بين 8 جزائريين تعرّضوا لكمين. وتابع الجد بونوار أن الجنود الفرنسيين كانوا يشنّون اعتداءات على الجزائريين من حين لآخر، بحجة ورود معلومات عن وجود خونة في صفوفهم، ما يدفعهم إلى إعدامهم رميا بالرصاص بطريقة شنيعة. وأبدى ''ب. ميلود'' استنكاره لمصالح السفارة في معالجة ملفاتهم، ورفضها الرد على اتصالاتهم، ومنحهم مواعيد طويلة الأمد، لا يحصلون بعدها إلا على مواعيد أخرى، حيث أخبرنا أنه اختطف وسنه لا يتعدى 16 سنة، ليضاف إلى صفوف المظليين في الجيش الفرنسي، مبرزا أن الجزائريين قاتلوا بشراسة إبان الحرب العالمية الأولى، طمعا في الحصول على الاستقلال بعد كسب فرنسا الحرب. لكن مسؤولي فرنسا العسكريين قابلوهم بعنصرية بالغة. وأضاف: ''الميزيرية عشناها معهم، ومازلنا نعيشها مع إداراتهم في بلدنا بعد الاستقلال''. فيما قال بوعاوية محمد إن مشكلة هذه الفئة أنها لم تجد من يتحدث باسمها، ويمثلها في الهيئات الرسمية الوطنية والفرنسية. أما طراري محمد، الذي اقتيد من بني سهل في ندرومة بولاية تلمسان، فقد أكد لنا أنه يراسل المصلحة منذ سنتين، للحصول على بطاقة قدامى المحاربين، وأضاف ''اختطفني الفرنسيون وسني لا يتجاوز 20 سنة. استغلونا لخدمة بلادهم، وأجبرونا على رفع راية عدونا. لولانا، لما كسبت فرنسا الحرب ضد الألمان. واليوم، يهينوننا ويتركوننا للعطش والجوع والحر والبرد أمام مصالح قنصلياتهم''. وقال ضيف علي، 80 سنة، إن أصحاب البطاقات أيضا لم يسلموا من تماطل وإهمال ممثلي السلطات الفرنسية في بلادنا، خاصة أنه تحصل في 2010 بعد 7 سنوات من الانتظار، على بطاقة قدامى المحاربين، ليضطر إلى الانتظار منذ سنتين كاملتين دون الاستفادة من حقه في المنحة، هذه الأخيرة التي لم يتضح مصيرها بعد بالنسبة لعديد المحاربين. وحسبه، فإن السلطات الفرنسية أقرّت خلال 2011 بقانون للمساواة في المنح بين قدامى المحاربين في فرنسا وقدامى المحاربين في الجزائر، إلا أنه لم يطبق من طرف السلطات الفرنسية لحدّ اليوم. وأفاد ضيف أن حق قدامى المحاربين الجزائريين قد يضيع، خاصة أن معاشاتهم لا يمكن أن تستفيد منها عائلاتهم أو أقاربهم في حالة الوفاة، حسب نص القانون الفرنسي. وعن عدد قدامى المحاربين في الجزائر، أكد محدثنا أن عددهم، غداة الاستقلال، تجاوز 500 ألف مواطن جزائري اقتيدوا للحرب مع فرنسا، مبرزا أن عددا كبيرا من هؤلاء توفوا خلال السنوات الماضية، ومنهم من لم يتلق معاشه. وباستياء بالغ، أسرّ لنا بن الطيب محمد أنه اقتيد وسنه لا يتعدى 20 سنة من منزله لينضم إلى صفوف الجيش الفرنسي، ما أشعل في نفسه صراعا قاسيا بين مواجهة الأعدام وبين البقاء في صفوف المستعمر الذي قتل ونكل بأبناء الوطن. وقال محمد إنه كان مستعدا للموت على خدمة الجيش الفرنسي، إلا أن شبابا آخرين اقتيدوا مثله إلى صفوف الجيش الفرنسي، أكدوا له أن التدريب الذي سيتلقونه في صفوف الفرنسيين على حمل السلاح والخدمة العسكرية، سيفيدهم كثيرا في حال تمكنوا من الانضمام إلى جبهة التحرير الوطني، حيث أكد لنا العم الطيب أن من المدربين في صفوف الجيش الفرنسي من التحقوا بصفوف الجبهة آنذاك، مبرزا أنه لم يكن له الحظ في الالتحاق، لأنه اقتيد إلى الجيش سنة .1961 شهادات أخرى أما محمد علي الذي التحق بالجيش الفرنسي في 1959، فقال إن لحظات اختطافه من منزله لم تفارقه يوما، بعدما أخذته القوات الفرنسية معصب العينين. بعدها، أفاق على كابوس استمر مدة 36 شهرا من الخدمة في الجيش الفرنسي. وقال محدثنا إن الجنود الجزائريين كانوا يعاملون بطريقة مهينة، حيث يوضعون لتنظيف المراحيض ودورات المياه، وغسل الملابس والأفرشة، والطبخ، فيما يهتم الفرنسيون بالتدريبات فقط. وندّد هؤلاء بالعنصرية والتمييز من طرف الإدارة الفرنسية الحالية، خاصة أنها لم تشرع في تطبيق تعليمات القانون الجديد، بشأن المساواة بين الفرنسيين والجزائريين في المعاشات. مؤكدين أنه من غير المعقول أن يتقاضى الفرنسي 600 أورو في الشهر الواحد، ويتقاضاها الجزائري في عام كامل، في ظل الخسائر البشرية والمادية والنفسية التي تعرّض لها هؤلاء خلال الحرب، خاصة أن السفارة الفرنسية أعلنت في 2010 أنها ستشرع في تسليمهم معاشاتهم ابتداء من جانفي 2011 بأثر رجعي، إلا أن هذه الوعود لم تجسد لحد الساعة. ودعا قدامى المحاربين السلطات العليا في البلاد إلى التدخل، لإنهاء الوضع المزري والإهانة اليومية التي يتعرّض لها الجزائريون من قبل مصلحة قدامى المحاربين بالسفارة الفرنسية، وطالبوا بتخصيص قاعة انتظار مهيأة، خاصة أن أغلب المعنيين طاعنون في السن، ولا يتحمّلون مشقة الانتظار في الشارع، تحت أشعة الشمس الحارقة أو تحت الأمطار الغزيرة، في ظل إجبارية احترام هؤلاء للمواعيد المحدّدة من طرف المصلحة المذكورة، والتي غالبا ما يعاد تأخيرها إلى أوقات أخرى من طرف مسؤولي المكاتب دون أي نتيجة تذكر. وقد أبدى المحاربون استياءهم، خاصة أنهم يتوافدون من كافة ولايات الوطن، على غرار تمنراست وتلمسان وخميس مليانة وغيرها، وهو ما يجعلهم لا يستطيعون تحمّل متاعب التنقلات الدائمة، في ظل الحالة الصحية المتدهورة التي يعيشونها. فيما أضاف آخرون أنهم خرجوا من الجيش الفرنسي دون حصولهم على وثائق تثبت خدمتهم في صفوفه، وهو ما جعلهم يواجهون رحلة شاقة لجمع الملفات وتقديمها للمصلحة، من أجل الحصول على معاشاتهم بعد سنوات. الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان تطالب بمساءلة السفير الفرنسي كرامة المحاربين القدامى من كرامة الجزائريين دعا رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، بوجمعة غشير، السلطات العليا في البلاد إلى مساءلة القنصل الفرنسي بالجزائر، حول الإهانة التي يتعرّض لها قدامى المحاربين الجزائريين، بصفة يومية، أمام مقر مصلحة قدامى المحاربين التابعة للسفارة الفرنسية بالجزائر. وأوضح المتحدث أن الحكومة الفرنسية ملزمة، قانونيا وأخلاقيا، بالتكفل بمشاكل هذه الفئة التي استغلت خلال فترة الاستعمار من طرف الجيش الفرنسي، بعد اختطاف البعض من منازلهم، وخداع البعض بمنحهم الاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقال إن قدامى المحاربين الجزائريين أبلوا بلاء حسنا في ميدان الحرب، وساعدوا فرنسا على كسب المعارك والتغلب على الألمان، إلا أنها كافأتهم في ماي 5491 بمجازر دامية وخديعة كبرى أظهرت حقدها، وهو ما يثبت، حسبه، أن فرنسا لن تحترم يوما التزاماتها ووعودها تجاه الجزائريين، خاصة أنهم فئة شاركت في الحفاظ على الكرامة الفرنسية ضد الألمان. وشدّد على أن السلطات الفرنسية ملزمة بتعويضهم، حسب التضحيات التي قدموها آنذاك. وأضاف غشير أن السلطات العليا في البلاد ملزمة باستفسار المصالح الفرنسية فوق التراب الجزائري، حول المعاملة المهينة التي تعرّض لها مواطنون جزائريون طاعنون في السن أمام مقرها، من خلال استدعاء السفير ومساءلته حول التأخيرات في منحهم حقوقهم المادية، والمعاملة السيئة التي يواجهونها ''لأن كرامتهم من كرامة الجزائر''.. يضيف محدثنا.