لا شك عندي أن قدماء المصريين عندما نحتوا نقوشهم ورموزهم على جدران المعابد، وشعراء الجاهلية حينما علّقوا قصائد المعلقات على أستار الكعبة، إنما كانوا يقصدون ما هو أكثر من مجرد ترك الأثر للأجيال القادمة، وإنما كانوا يبثون في تلك الكتابات كلها رسائل محددة، كانوا يطمحون بها ومن خلالها أن يكون العالم أفضل. يبدو لي الأمر شبيهًا بفكرة كتيب الإرشادات (الكتالوج).. لكي تتعامل مع الجهاز الجديد، يجب أن تقرأ التعليمات جيدًا وتنفذ الخطوات تدريجيًا حتى تحصل على التعامل الأمثل للجهاز. أحلم بكتابةٍ كهذه. كثيرًا ما سمعنا عبارات مثل «هذا الكتاب غيَّر حياتي».. ولكن في الواقع لم أجد -حتى الآن على الأقل- هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره كتابًا غيَّر حياتي فعلاً، ولا الكتابة التي يمكن أن تغيَّر طريقة التعامل مع الحياة والعالم، على طريقة ديل كارينجي وشركاه، في «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس» مثلاً. ذلك أننا لسنا هذه الآلات الصماء، ولا تلك الأجهزة المركبة التي يمكن بتعديل طريقة تشغيلها أن تسير بشكل صحيح، أو يراه البعض صحيحًا، فلكل واحد منا تركيبته النفسية وعقده واعتقاداته الشخصية التي اكتسبها وتشربها بوعي وبدون وعي، من عائلته وأسرته ومجتمعه، ثم قراءته أيضًا، وترسبت داخل لا وعيه بطريقة قد يعجز هو نفسه عن تفسيرها أو تحديها. ولكن -ورغم ذلك كله- يظل حلم الكتابة التي تغيَّر العالم وتؤثر فيه بشكل جذري، حلمًا رومانسيًا جميلاً.. أحلم به كثيرًا ويؤرقني! يقولون إن عبد الناصر عندما قرأ «عودة الروح» فكَّر في الثورة، وبعيدًا عن فكرة الثورة أو الموقف من عبد الناصر إلا أن الأمر يحتاج إلى قليل من التأمل والملاحظة، هل يمكن صحيح أن يكون عمل ما محفّزًا لثورة أو محركًا ومهيِّجًا للجماهير؟! متى تعرف/ تدرك أن كتابًا ما أثَّر في حياتك بشكل كبير؟! في القرارات المصيرية مثلاً؟! التغيرات الجذرية؟! قرار الارتباط والزواج، أو الانفصال مثلاً؟! ربما يبقى أمر تراكم الخبرات، وكون الأمور تأتي على نحوٍ هادئ وتدريجي، مما يجعل ذلك الأثر ليس واضحًا بالنسبة إلى كل فردٍ على حدة، ولكن هل تكون الكتابة ومجموعة كتابات معينة قادرة على مواجهة العالم أملاً في تغييره؟! ثم في هذا العالم المضطرب الموبوء، من الذي يؤثِّر في الآخر ويغيّر فيه؟! أتكون الكتابة فعلاً قادرة على انتزاع نفسها من العالم وأحداثه ومصائبه وبلاويه، لتقدم للناس روشتة للنجاح والخروج من كل الأزمات والمصائب إلى عالم أفضل، أم تظل أسيرة تفسير المشكلات وعرضها واستعادة طرحها وتقديمها مرة ومرات، ونظل نقرأ ونقرأ عن تلك المشكلات، وندور داخل حلقات مفرغة تقيد الكتابة الحرة وتخنقها تمامًا، ولا تتحرك بها إلى ذلك الحلم الجميل المستحيل؟! أعتقد أننا نحاول أن نفعل ذلك باستمرار، ونتلقى على تلك المحاولات بعض الدلائل والإشارات من قرَّاء آخرين، يخبروننا دومًا أن ما قرءوه قد أعجبهم وأثَّر فيهم على نحوٍ ما، مما يقربنا من ذلك الحلم ويدفعنا دفعًا إلى ذلك الأمل، والإيمان به بشكل أفضل، بل والإخلاص له، للكتابة.. تلك التي ربما تقدر في لحظة نادرة من اللحظات على جعل العالم أفضل، إن لم تتمكن من تغييره جذريًا بشكل كامل!