بقلم: الأستاذ عبد الحميد عبدوس قبل عشرين سنة، وبالضبط في 23 ديسمبر 1989، وعندما كان الأوروبيون يستعدون للاحتفال بعيد الميلاد، عرضت شاشات التلفزيون صورا في غاية البشاعة لما سمي آنذاك مجزرة "تيموسوارا" التي اتهم فيها النظام الشيوعي للرئيس الروماني السابق بقتل آلاف المواطنين الذين تظاهروا ضد نظامه. وتنافست وسائل الإعلام الغربية في الدول الرأسمالية في شحذ الغضب والتقزز من نظام تشاوسيسكو في نفوس الناس، وكتبت بعض الصحف أن شاحنات القمامة كانت تنقل جثث المتظاهرين لدفنها في أماكن مجهولة، وأن قوات الأمن الروماني كانت تعدم سائقي الشاحنات حتى لا تترك شاهدا على ذلك التصرف الإجرامي. نظام نيكولاي تشاوسيسكو كان بلا شك نظاما فاسدا ومستبدا، وسقوطه لم يحزن الكثيرين، ولكن المحزن هو انحراف الإعلام واستخدامه المتعمد للخديعة والكذب لتضليل المتلقين، والتلاعب بالحقيقة لخدمة هدف سياسي، يتمثل في تعجيل التحاق شعوب أوروبا الشرقية بركب الرأسمالية المنتصرة. لقد تبين بعد أن تم إسقاط نظام تشاوسيسكو وإعدامه مع زوجته ورمي جثتيهما في الشارع، أن صور الآلاف من ضحايا مجزرة تيموسوارا التي نسبت إلى قوات "السكيريتات"(الأمن الروماني) كانت في الحقيقة جثثا أخرجت من مقابر الفقراء، وتم تصويرها في التلفزيون لإضفاء الطابع المأساوي على سيناريو التضليل! وفي المقابل فإن سائل الإعلام الغربية لم تهتم إلا قليلا بجريمة إنسانية حقيقية ?هذه المرة- ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين، تمثلت في سرقة أعضاء الشهداء بعدما قامت بسرقة الأرض الفلسطينية، ولولا شجاعة ونبل الصحافي السويدي دونالد بوستروم لظلت هذه الجريمة طي الكتمان أو مجرد ممارسة سرية يقوم بها جنود الاحتلال الإسرائيلي وخبراء الطب الشرعي في إسرائيل! إذ في 17 أوت 2009 كتب دونالد بوستروم تحقيقا في أكبر الصحف السويدية "أفتون بلاديت" (صحيفة المساء) يكشف فيه قيام جنود إسرائيليين بقتل شبان فلسطينيين لسرقة أعضائهم، وجاء في التحقيق:"القضية بدأت بشاب فلسطيني (بلال أحمد غانم) يبلغ من العمر 19 عاما، وكان يقوم برمي جنود الاحتلال بالحجارة، وفي أحد الأيام كان يمشي في الشارع عائدا إلى منزله وشاهده جنود إسرائيليون فأطلقوا النار عليه ونقلوه إلى مكان آخر، وكان ذلك في 13 جوان 1992، وبعد خمسة أيام أعادوا الجثة في الساعة الواحدة والنصف ليلا ". وبعد نشر هذا التحقيق هاجت الحكومة الإسرائيلية وماجت، واتهمت دونالد بوستروم باختلاق "فرية دم" ضدها، وطالبت السويد بالاعتذار، ومما قاله وزير المالية الإسرائيلي بعد اجتماع الحكومة التي أدانت بالإجماع تحقيق صحيفة "أفتون بلاديت":"إن الحديث يدور عن فرية دم لا سامية، وحكومة السويد لا يمكنها أن تبقى محايدة ". وتضامنت الأحزاب والمنظمات والجمعيات الإسرائيلية في شن هجوم مسعور على الصحفي بوستروم، وقد وصل الأمر إلى حد إرسال تهديدات بالقتل للصحفي السويدي، ولكن دونالد بوستروم تمسك بموقفه، مستندا في ذلك إلى معلوماته الموثقة وتعدت مصادر معلوماته ومساندة صحيفته "أفتون بلاديت" والحكومة السويدية التي رفضت الرضوخ للضغط الإسرائيلي، فقد أظهر استطلاع للرأي أن الغالبية العظمى من السويديين كانت تساند موقف حكومتها الرافض للاعتذار. ورد بوستروم على المشككين في تقريره قائلا:"تقريري يقول الحقيقة وإسرائيل تنتهك القانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة كل يوم، ولا يريدون من أحد أن يكتب عن ذلك، وعندما يكتب أحد عن ذلك لا يروق لهم خاصة في مثل هذه القضايا التي يرونها حساسة ". وعن المكان الذي يستخدم لنزع أعضاء الشهداء قال بوستروم إن مركز أبو كبير الذي تشرح فيه جثث الشهداء ينشر قائمة أسعار لبيع وشراء الأعضاء. وبعد مرور أربعة أشهر جاء الاعتراف من إسرائيل بحقيقة ما ذكره تحقيق الصحفي بوستروم عن نزع أعضاء من جثامين الفلسطينيين وحتى المتاجرة بها، ففي 18 ديسمبر 2009 بثت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي شريطا وثائقيا تضمن اعترافا للرئيس السابق لمعهد الطب الشرعي الإسرائيلي (أبو كبير) يهودا هيس قال فيه:"إن خبراء الطب الشرعي في معهد أبو كبير حصلوا على قطع من الجلد وقرنيات وصمامات القلب وعظام أخذت من جثامين قتلى فلسطينيين وعمال أجانب وإسرائيليين دون الحصول على موافقة ذويهم". ويمكن اعتبار اعتراف الدكتور يهودا هيس تأكيدا لمقولة "وشهد شاهد من أهلها". وتعقيبا على اعترافات الرئيس السابق لمركز أبو كبير الإسرائيلي قال مفجر الفضيحة دونالد بوستروم لقناة (الجزيرة):"إن وزير الصحة الإسرائيلي أنجز تقريرا أكد فيه أنه وقعت سرقة لأعضاء بشرية ". وما يدعم قضية سرقة الإسرائيليين لأعضاء الشهداء الفلسطينيين وحتى المتاجرة بها هو أن مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي (أف.بي.آي) تمكن في 23 جويلية الماضي (2009) من إلقاء القبض على عناصر شبكة سميت في الصحافة "المافيا اليهودية" وكان من أبرز أعضائها حاخامات يهود تخصصوا في المتاجرة بأعضاء البشر، فكانت الكلى المنزوعة في معهد أبو كبير الإسرائيلي تشترى ب 10 آلاف دولار ثم يعاد بيعها في الولاياتالمتحدةالأمريكية ب 150 ألف دولار، وبعد أن يتم تبييض أموال هذه التجارة الإجرامية في بنوك سويسرا يرسل قسط منها إلى حركة "شاس" اليهودية المتطرفة المشاركة في الحكومة الإسرائيلية، ويصب الباقي في حسابات أعضاء المافيا اليهودية. وقبل ذلك كانت الشرطة في رومانيا قد اكتشفت في 22 جوان 2009 عصابة تتاجر ببيوض النساء، ومن أعضائها الرئيسيين اثنين من الدكاترة الإسرائيليين، ولكن الإعلام الروماني والإعلام الغربي لم يستطع التعليق عن هذه القضية الخطيرة. فأين ذهبت جرأة الإعلام الغربي الذي أطلق العنان لهذيانه في مجزرة تيموسوارا في سنة 1989؟! ولكن لحسن حظ مهنة الإعلام، فإن هناك دائما من يدافع عن شرفها وينقذ ما تبقى من سمعتها على غرار الصحفي الشجاع دونالد بوستروم الذي أصر على أنه يجب "فتح تحقيق في فضائح إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها بسرقة أعضاء الفلسطينيين". فالإعلام هو حقيقة كما كان يصفه لنا أساتذتنا في الأيام الخوالي هو سلاح ذو حدين.