ها أنتذا، يا أخي فرحات، ترى من أعلى عليين ما تفعله الكائنات الرديئة في كل زمان ومكان. جاء أحدهم صبيحة 7 جوان 1994، وأسكن رقبتك بضع رصاصات، وانصرف كأن شيئا لم يكن. عاود صعود الدرج، حسبما قيل لي، واتخذ طريقه سربا في حي القصبة. هل هو حي اليوم؟ الله أعلم. كانت الصبيحة ذات زرقة بللورية على الرغم من أن شهر جوان خرج بصعوبة من رحم الربيع، ومضيت أنت في طرفة عين دون أن تودع أحدا اللهم إلا زوجتك (جميلة) التي اقتادتك على متن سيارتها، وتركتك عند مداخل قصر الحكومة لكي تضطلع بشؤون طفليها (فوزي) و(نظيم). وصبيحتها، كنت أنا عند مدخل مقر وكالة الأنباء الجزائرية بحي القبة، أتبادل التحية مع بعض الزملاء القدامى الذين لم ألتق بهم منذ وقت طويل، وإذا بأحدهم يقول: لقد أصابوا فرحات شركيت في مقاتله! قالها بلغة فرنسية هي أشبه ما تكون بلغة أهل المافيا في مرسيليا. وتوقف الزمن هنيهات على الرغم من أنني لا أعرف عنه شيئا حتى وإن ظل يصادقني منذ قدومي إلى هذه الدنيا. نظرت صوب أشجار الصنوبر قبالتي وأنا على يقين من أن اللغة أفلتت من عقالها وما عادت تنصاع لي. ومضت الدقائق، إن صح أن الدقائق تمضي، ثم عادت اللغة إلى مكامنها في وجداني. وجدتني قبالة فراغ يتمرد على اللغة نفسها، ولعله كان أشبه بالفراغ الذي أصبح عليه قلب والدة سيدنا موسى عليه السلام وهي ترى رضيعها وقد تقاذفته مياه النيل لكي تتلقفه العناية الإلهية بعد ذلك. ليكن في علمك، يا أخي فرحات، أن المرجعيات الأخلاقية والسياسية سقطت كلها في تلك الصبيحة. الثورة الجزائرية التي عشتها وأنا غلام، واحترقت بنيرانها، ومجدتها في قرارة نفسي حتى كادت تصبح دينا جديدا، هذه الثورة ما عادت بوصلة في نظري. بيني وبينها جيش عرمرم من الكائنات الرديئة، وبيني وبينها، وهذا هو المؤلم، مائتا ألف قتيل. والمؤسف هو أن نفس الناس ما زالوا يحكمون هذاالبلد! وليغضب من أراد الغضب من قولي هذا! اليوم، وأنت بين الآس والريحان بإذن الله، تعلم ما ابتلي به أخوك ذات مساء ليلكي من شهر جويلية 1993. جاءت الكائنات الرديئة لتفتك به، لكن الله عصم. وزرتني وأنا طريح مستشفى (عين النعجة)، ثم جئتني مع جميلة وفوزي ونظيم إلى الدار، وقلت لي وأنا أراك لآخر مرة: كن حذرا، يا أخي مرزاق! ولعلك تذكر أنني أجبتك: بل ينبغي عليك، أنت، أن تتخذ حذرك ما استطعت! وبعد أسبوع بالضبط، خرجت الكائنات الرديئة من مكامنها، وترصدتك في زقاق بالقرب من قصر الحكومة. وأنا أتساءل اليوم: هل تغيرت الأمور القبيحة في هذا البلد؟ لا أعتقد ذلك! حقيقة الحقائق، يا أخي فرحات شركيت، هي أن سفينة الحياة ما زالت تمخر العباب، وأن هذه الجزائر ما زالت حية بفضل بركات بعض الرجال ليس إلا، أجل ببركات بعض الرجال فقط. رحمة الله الواسعة على الزملاء جميعا في مهنة الصحافة، ورحمة الله على كل من طالته أيادي الكائنات الرديئة!