لماذا يعزف المسؤول العربي عن ممارسة حقه المدني المتحضر في الاستقالة بعدما يكون المنصب غرر به أو ثبت فشله فيه أو تقاعس أثناءه فأضر بالشأن العام، أو عثر به برنامجه الذي تبناه حزبه لخدمة المجتمع؟ لا أدري لماذا جاءتني فكرة الحديث عن الاستقالة، هذا الطابو الذي تعاديه مجتمعاتنا العربية، ويعتبر قيمة إنسانية راقية عند غيرنا ممن أخذ مكانه في صفوف العالم الأول، وأنا الذي عرضتها ذات يوم على أحد الأصدقاء »الكبار« في المسؤولية الذي تعثرت به أسباب النجاح في مهمة كلف بها فرد عليّ بالهجران، وكل ما أذكره أنني لما شاهدت زعيم حزب بريطاني عريق يقدم استقالته من الحزب طواعية وعن طيب خاطر مباشرة بعدما لم يحقق ما وعد به الجمهور، وقد هوت به صناديق الاقتراع فارتفع بنفسه إلى الناس بالاستقالة، وترك مكانه لمن يعتقد جازما أنه سيضيف إلى ما ترك دون أن يتنكر للإرث القديم. تمنيت في لحظة أن يصيبنا الله بعدوى سلوك هؤلاء الرجال، فقد نشفى من علل كثيرة تناسلت فينا، ولكنني استيقظت بعد سباحة في الأحلام وعلمت أن تحصين المنصب في النظام العربي هو أولوية الأولويات لدى أي مسئول في أي موقع، حتى لو كان وسط الأشلاء والجث أو القمامة . منذ أن اجتهد معاوية بن أبي سفيان بالسيف والدهاء، واستولى على إرث الخلفاء الراشدين وجعله ملكا شخصيا وإرثا عائليا لأبنائه من بعده، ونحن نعاني من تبعات اجتهاده في إدارة الحكم وانتقاله بسلاسة من حاكم إلى آخر، وقد يكون ذلك الاجتهاد أحد تبعات ضعف الدولة المركزية العربية الإسلامية أينما كانت وسقوطها واحتلالها من طرف الغرب الصليبي الصهيوني فيما بعد، ثم انشطارها إلى قبائل غيّرت تسميتها فقط لتدخل بها التاريخ الحديث كإمارة، أو مملكة تعود نشأة اغتصاب بعضها إلى بضعة قرون لم تستطع خلالها غير تضييع كثير من الجغرافيا التي ما زالت إما محتلة إلى اليوم، أو تم تحويلها إلى بؤرة دائمة التوتر مع جيرانها أو جمهورية ترفع شعارات الغرب وتخفي حنينا إلى توريث ما لا تملك إلى من لا يستحق. ورث الجزائريون على ما يبدو من الثورة التحريرية ثقافة الانصياع للأوامر دون مناقشة والقبول بالأمر الواقع مهما كانت التحفظات حوله، فنجد في أدبيات الثورة الكثير مما كان صالحا في ذلك الوقت، ولم يعد اليوم بنفس القوة على الأقل، كقولهم من طلب المسؤولية »خائن« ومن رفضها »خائن«، وجعلوا هذه الثقافة دستورا غير مكتوب ولكنه الأكثر ثباتا وإتباعا. فقد يستهجنك من يسمعك من المسؤولين العمليين وأنت تقول بإمكانية خوض تجربة الاستقالة عند الفشل المتعددة أسبابه، وربما اعتبروها أقرب إلى تجربة الموت منها إلى واحدة من أنبل تجارب الحياة المرة، وربما اعتبروك خياليا وغير واقعي، أو كمن يعيش أحلام اليقظة، حتى أن بعضهم قال لي ذات مرة »ألست في الجزائر؟!«، وكأن هذا المجتمع المغبون بأهله كتب عليه أن يدخل الألفية الثالثة من باب التأريخ فقط. شخصياتنا العمومية أو تلك التي اختطفت منا عالمنا السياسي من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها وسواء كانت في السلطة أو في المعارضة ترفض ديمقراطيتها الخاصة التخلي عن الزعامة والرياسة، وقد ألغت من قاموسها كل ما يمت إلى ترك الكرسي- من أجل تجديده- بصلة، وبذلك تكون تحنطت فعلا ولوّثت فضاء الخدمة العمومية. فهذا يبرر بقاء عنوة على قلب الأمة رغم العواصف العاتية التي حملتها له صناديق الانتخاب بقوله إنه »أخطأ في الشعب«، وذاك يبرره بتزوير يكون قد حصل وهو مصر على النضال في المنصب من أجل تصحيح التزوير، وذلك يبرره بشرعية ما يقول إن المصلحة العليا للبلاد تحتم عليه وجوده الدائم في المنصب، وهؤلاء وأولئك يبرهنون على تشبثهم بمقعد تهزه الريح بكونهم حملة أمانة مقدسة لا يأتمنون أحدا غيرهم على حملها مهما كانت الظروف والأحداث والنتائج . لم أسمع بأحد فشل أو تم تفشيله عمدا خاض غمار الاستقالة إلا ما ندر، أم الأغلبية الغالبة فإنها تفضل التشبث بحواشي السلطة تحت أي تسمية حتى ولو جاءت بعدها الإقالة. وإذا ما سألت أحدهم عن إحجامه على ذلك الفعل المتحضر قبل أن يسقطه ذلك الفعل المشين سيجيبك بأنه كان فعلا مستقيلا عمليا ولكنه كان حريصا على ألا يترك مزايا المنصب إلى من هو أقل منه شأنا ومكانة، ولا يضيره أن يقدم فتواه السياسية والدينية والاقتصادية بما لا يتماشى في كثير من الأحيان مع قناعاته فإذا ما طرد أو أنهيت مهامه صار ثائرا كبيرا ومعارضا عنيدا! إذا كان مسؤولو عرب هذا الزمان قد ورثوا أسوأ ما كان في جاهليتهم من حب التملك والانفراد بحكم القبيلة، فإنهم لم يكونوا ليشعروا بأدنى حرج ومصالح »رعاياهم« تسقط أو تتآكل أمام أعينهم، فلم يكن مثلا عشرات المئات من المعتمرين الجزائريين الذين تفرقت بهم السبل في مطار جدة السعودي كافية لأي مسؤول في أيٍّ من المواقع أن يتحلى بالشجاعة المطلوبة، ويتحمل مسؤوليته ويستقيل احتجاجا على تلك الوضعية المسيئة للدولة والشعب ولو كان تسبب فيها غيره. كما لم تثر »ثورة« المواطنين في أماكن كثيرة متعددة نتيجة انهمار السيول عليهم من كل جانب بعدما وعدوا أنهم آمنون بفضل الأغلفة المالية الكبيرة التي خصصتها لهم الدولة أو فساد الطرق المؤدية من مساكنهم إلى باقي مدنهم، حاسة الاستقالة فيمن تقاعس أو تهاون المكلفون- تحت سلطته- في إصلاح الطريق الذي أصبح حاجزا يمنعهم عن الخروج من تجمعاتهم السكانية ذلك أن الاستقالة- وهي فن الممكن عند الغرب- تعتبر درجة متقدمة من الحس المدني، ما زالت عند العرب فنا ولكنها فن المستحيل ...